سمّاعة جديدة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

سمّاعة جديدة

  نشر في 30 أكتوبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

اليوم، ركبتاي تحملاني بالكاد، وكأنهم امتداداً للأرض، فأشعر بأني ضيف ثقيل على العالم، ضيف ثقيل ومع ذلك يريد أن يثرثر معكي كرجل عجوز. يضع رأسه على فخذيك، يتحدث وتنصتي. أريد الآن أن تشعريني بأن الحياة مليئة بالأوغاد ولكني بخير هنا، وأن العالم قاس ولكني صلب. خذي راحتك في الكذب وتخلّي عن الحياد.

أقول لزميلي الأجنبي في العمل أنّي مريض. الأنفلونزا أضعفت مفاصلي. يسأل كيف حدث هذا، أقول أني جلست على البحر بالأمس قليلاً، وكان الهواء بارداً. سألني عن عمري فأجبت. قال أنه بعد الثلاثين يجب أن نظهر للعالم قليلاً من الاحترام. فتأثرت بشدة، لا لأنه ينبهني بجدية البالغيين أن عنفوان الشباب يتآكل، ولكن لأنه لامني، وركبتاي اليوم لا تحتملان هزّة العتاب.

أقف بالأمس أمام زجاج فاترينات المحلّات لأرى نفسي قبل أن أصل لصديقتي في وسط البلد، مرتدياً سمَّاعات أذن كبيرة أشتريتها من يومين. أشعر أني مرتدياً إناء طعام فوق رأسي وسائراً به في الشارع. أقول لصديقتي مازحاً في التليفون قبل أن أصل، بأنها ستعرفني من السمّاعة، سماعة كبيرة تسير على قدمين. أقابلها، تقول أنها حجمها عادي، وأنّها الأمل الوحيد في الإنعزال عن العالم. تسكت لوهلة، ثم تقول ولكنها فعلاً سمّاعة كبيرة على قدمين، فأشعر بواقعية المزحة، فيستطيل إحساسي بلفت الإنتباه ويكبر الإناء.

أشعر بثقلها في حقيبتي وعلى رأسي وحين أخلعها وألفها حول رقبتي. أقول للبائع أنها كبيرة، يقول هو أيضاً أن هذا الحجم هو الأمل الوحيد في العزلة التامة، أقول في نفسي أني سأعتاده. أشعر بضيق من لفت الإنتباه، ولكن أعترف أن هناك لذة خفية في السخرية من العالم وإبراز لساني له كيداً. فهذا ليس صمماً. بكبسة زر أضيف للعالم موسيقى تصويرية، بإرادتي لا بإرادته، فأضيف موسيقى رومانسية أمام مشهد لسيدة مسنة تعاني في اللحاق بأتوبيس مزدحم، أو أن أضيف نكهة سمعية حزينة وأنا أشاهد كلب سعيد يلاعب صاحبه. وكأن العالم أب قوي، تركت طبق طعامه الذي قدمه لي على طاولتي، وعقدت ذراعي كطفل متمرد محدقاً في السقف متظاهراً بالشرود. أتخيل نظرة الغيظ الأبوية، وأنتظر العقاب، أخاف من سقالة تسقط عليّ من فوق مبنى، أخاف من سيارة تسير في إتجاه معاكس. أخاف من مقتلي، ليس من المقتلة في حد ذاتها، ولكن لخوفي من أن تكون ميتة مضحكة. تخيلي مشهد الناس وهم يصيحون بي محذرين من خشبة عملاقة تسقط، وأنا اسير حاملاً ذلك العازل فوق رأسي. أراهن أنهم سيضحكون، سيقولون وهم واقفون على جثتي، لقد حذرنا المغفل الأصمّ. أخاف أن يكون موتي ملفتاً للإنتباه هو الآخر.

كلمّا مررت على سينما (عثمان) بجوار منزلي، أتذكر أني حضرت ميلادها. كان جدي يقول لي دوماً، لقد حضرت بناء كذا وكذا، ليتك ترى ما رأيت حينما كانت تلك المنطقة المكدسة صحراء خالية. وكانت تلك السينما أول أطفالي وأبني البكر وفرصتي لتقليد جدي. كنت أمر على ساحتها الأمامية بدراجتي وأنا طفل. كانت خراب. ثم شيئاً فشيئاً بُنيت السينما وأخذت شكلاً. نمت الساحة التي أمامها، وأزهرت بها حدائق صغيرة، ونافورة في المنتصف. كنت أجلس بها فيها أثناء توجهي للمنزل، أؤجل مكالماتي الهاتفية لحين الوصول اليها، شاعراً بإستحقاق ما، دوناً عن كل زائريها. أقول في نفسي، لقد حضرت طفولتك، شهدت ميلادك، بإمكاني أن أتحدث عنك بطريقة جدي عن إستحقاق. ومع الوقت شهدت إحتلال ساحتها بمقاهيٍ عشوائية ومقاعد بلاستيكية وحبال طويلة تتراص عليها اللمبات الملونة. ذبلت الزهور وجفت مياه النافورة شيئاً فشيئاً، حتى ماتت تماما. وحينها فقط، علمت أن الثمن غالٍ ، وأن فرحة الميلاد وتبنيك له باختيارك، سيتبعه غصة إجبارية بعد الإحتضار المحتوم. لم ينبهني جدي لذلك. بالأمس مررت بالسينما متحصّناً بسماعاتي، فلم أستطع الإستمرار، خلعتها ونظرت حولي، تشرّبت الحزن الصافي لموتها. أي موسيقى تصويرية في الحداد غير مقبولة. الصمت فقط يليق، بالكاد.

مشاعري نحوك خطابات أكتبها، يتراوح قلمي فيها بين ضفتين، إما قلما غُمس للتوّ في مداد غزير من العاطفة، فتخرج الحروف شديدة السُمرة، صادقة حتى المباشرة والإبتذال فتتشابك الحروف. أو قلم عجوز مرتعش، مثلما أنا الآن، يسعى لكتابة أشياء مخجلة عن نفسه، وينساها في الصباح. أسعى معك لحالة وسطية.

ولكن دعيني أخبرك أنه وبرغم كل تلك المشاكسات، كان العالم رؤوفاً معي. سأكون ممتناً على أي حال مثلما قلت من قبل للأصدقاء. سهل الإرضاء على أي وجبة طعام، وسأقبل قرصة الأذن تلك، فخلعي للسماعة على البحر من على أذني الدافئة بالأمس، أصابني بألفلونزا. لقد فضّل العالم مشفقاً تحذيري أولاً. فهمت المغزى ولكنّي خجلت من الإعتراف بذلك للزميل الأجنبي، وتظاهرت بالغباء.


  • 2

   نشر في 30 أكتوبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

مريم منذ 5 سنة
لؤى ...قرات المقالة ..مراات.
راق لى ..كل ما كتبت..هناك يدا خفية تجذبنى . الاسلوب؟..ربما....الموضوع ؟؟ربما..التعمق الشديد فى خبايا النفس والذى يلازم كل مقالاتك؟ ربما...لكن ...انا اتوه ...حقا اتوه فى كل مقالاتك..ولا احب ان اضيع. ورغما عن ذلك اعود لأقرأ لك.ساكتفى بان اقول أبدعت.
0
لؤي أحمد
مريم.. أنا كمان قريت تعليقك مراات
وأسعدني جداً فوق ما تتصوري
تسلمي يا مريم

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا