ليلٌ شارد ..
ظلامٌ قاتم ..
عتمةٌ بائسة تداعبها نجوم فى سماء سوداء ..
و أحدهم يستلقى على أرضٍ جرداء يُسمع فيها نسيم الهواء ..
و أدام النظر إلى تلك الغيامات و النجوم الوضاءة ثم تساءل وعينيه تغشاهما الحزن:
لم عليَ أن أتحمل رؤياكِ على بعد هذه المسافة ؟ لم عليَ أن أقاسي تلك الظلمة لأراكِ ؟
لم لا تشتاقين إليَ كما أشتاق لكِ .. لم لا تصغين إلى شجونى كما أصغي إلى أنين جمالك ؟
فقاطعته شجونه : كلا ، تلك النجوم هى أُنستى و مرأتى التى أسكب عليها الهموم فتتسع لها ! هى فراغى الذى أملأه ،هى من تمر معها الساعات كأنها بضع ثوانٍ ، هى مأواي الذى أتغنَي به فى المساء ..هى شموعي التى تطفئها إشراقة الصباح !
و لكن لمَ؟ ..لمَ يسلبها ضوء الشمس ؟ لمَ لا تكن أكثر صمودًا ؟! لم تفارقنى و هى تعلم أن ذاك يؤذينى و أنها ملجأى الوحيد؟ غيابها يجعل النهار أشد ظلمة من حلكة الليل !
هل علىَ أن أعالج ذلك الكوكب من الشيزوفرينيا المُصاب بها ؟
نصفه ليل و نصفه نهار ! هل أمقت النهار لسلبه لوحتي المُرصعة بالنجوم أم أمقت الليل لأنه يحن عليه فراقي؟ أأتحمل برودة الليل كي أناجي السماء و من ثمَ يقطع حديثنا ضوء ساطع يؤذي عينيَ ؟ لمَ تعرقل الشمس نظراتي المرسلة عبر كل تلك الأميال .. لم تخدش زجاج عينيَ حتى تكسره و تجبرهما على الخضوع ؟!
أنا لا أغمض عيناي إلا لأنى أعلم أن رموشي العليا اشتاقت لرموشي السفلي ! لكننى لا أحب أن أجبرهما على التلاقي بسبب ذاك السطوع !
أجابته النجوم بصوت خافت أكتمه البعد بينهما : " لو أنك تؤمن بأنى أزداد لمعانًا كلما نظرت إليَ و تألمت حزنًا على فراقى ، لرسمتنى عيناك أمامها رغمًا عن أنف الضياء و أعوانه .. ستراني و أحدثك فى كل لحظة و لكن إذا اختلت نظراتك بي فى صدقٍ"
لكنه لم يعي ذلك و ظل يحادث نفسه : " كيف تعلق النجوم فى السماء ؟ لم لا تجذبها الأرض و تتساقط على البشر فيلمعون بضوئها و تواري سوءة سواد قلوبهم ؟ لم لا تبث الحياة فى ظلامهم الداكن و تبعث جمالها فيهم .. نحن جُناة لكوننا نستضيء بضيِ تلك النجوم التى لا تنظر منا شيئا إلا الظلام و البغضاء و الأدمغة التى تعجُ بالغمام الذي يشوه أفعالها !
لقد أرادت البعد عن ذلك الكيان المرعب .. رأت أن جمالها و البشر لا يتفقان أبدا .. أدركت أن سلاسل الفضاء خير قيدٍ لها فهى لا تشعر بالوحدة فى الأعلى! يحتضنها من حولها و تسبح فى فراغ داكن لا حدود له .. تتكاتف و ترسم جمالًا صارخًا على لوحةٍ يصعب النقش عليها! تتوغل فى غابتها الزرقاء و تنل ما تشاء من نظرات الناس .. كيف لها أن تهجر ذاك النعيم ؟! كيف أحبها و أودُها أن تسقط إلى ذاك العالم الموحش ! هى لم تحلم بالانتحار بعد .. رأت أن كيانها فى الأعلى لذا لا تطلب منها الدمور !
ليس الليل بظلمةٍ و هدوءٍ و نومٍ ، لكنه بقمرٍ و نجومٍ و ثالثهما أنا..
ها هى الشمس تطلُ بإطلالتها الذهبية التى غطت على لآلئ السماء .. وعدتها بأنى سأعود لها متلهفًا مع الليل ! أخبرتها بأنى أعدُ غروب الشمس شروقًا لي فى وجودها و تسامري معها!
رحلتُ لأتجول فى طرقٍ لا أعلمها .. لا أدرك هويَتى و لا إلى أين أريد الوصول !
قررت أن أسير إلى حيث تدفع بيَ الرياح و تجذبنى مفترقات الطُرق ..
حيث كدتُ أن أتعثر فى صخرةٍ تخبيء خلفها مجموعة زهورٍ مورقة جذبت رائحتها نظري إليها !
كانت جميعها ناضجة مزهرة تغشي أوراقها علامات البهجة فابتسمت لها .. و تساءلت مجددا " إذا كنا قد خُلقنا من طينٍ، لمَ لا نزهر وردًا حين تدمع أعيننا ؟ " و بينما كنت مندمجًا فى أفكاري الوهمية ، لفت نظرى زهرةً ذابلة تنكمش أوراقها شيئًا فشيئا و لمس قلبي صوت صراخها ! لقد كانت وحيدة بعيدة عن رفيقاتها .. هل نبذنها أم أن القدر شاء أن تكون بعيدة عنهن ؟
لم أبالى بالإجابة و لكن ما مزَق شعوري أن الزهور الأخري لم يأبهوا لأمرها ! هنَ فقط يتكاثرن و يبتهجن و يتشاركن فى تربةٍ واحدةٍ و يستمدَن ضياء الشمس ليزددن رونقا !
جميلٌ و لكن تلك الزهرة هنا عاجزةٌ وحدها .. تسقط منها ورقة كل يومٍ فى حين تلمع وريقات الأخريات!
كيف تُزهر وقد تعرَت جذورها و دُفنت تحت طميٍ جاف ؟!
قتلنى الرحيل من دون تقديم العون لها ، فلو أنى لامستها لانهارت و لقيت حتفها و كنت سأعيش ما بقي من عمري تعيسًا لو كنت السبب فى التعجيل بموت تلك الزهرة .. كانت الأحب إلى قلبي من بينهن جميعًا .. لكننى قبل تركها طأطأت رأسي إليها و خبرتها بأنى سأزرعها فى قلبي لتزهر فى دفءٍ فمكانها ليس فى تلك الحياة الجافية !
دمعت عيناي وجففتها طلاسم الرياح و انحنيت قليلًا .. سمعتُ صوت حفيف الأشجار و صوت اعتلاج أمواج بحرٍ يناديني فنهضتُ مسرعًا لأحدثه ..
واصلت الركض حتى رأيته من بعيدٍ فأزدت من سرعتي حتى ارتطمت بحجرة أسقطتنى أرضًا ، و من ثمَ لامستنى مياة دافئة و كأنها تخفف عليَ حدة ألم السقوط .. أحببت السقوط تلك المرة ولم أُعجِل بالقيام وظلت لمسات مياة البحر تتسارع فى الاصتدام بي لتطفيء لهيب حزني و تغسل شحوبي فى كل مرة و تحمل معها الشوائب التى تطفو عليَ !
ثم سمعت همسات الرمال تحثنى على الوقوف لأن البحر اشتاق لرؤية وجهي ،فأقوم و قد ابتلَت ملابسي و أقف على حافةِ ذاك الشاطيء ليعمَ الصمت و تسكن الريح و الأمواج بُرهة و كأن الزمن قد توقف و لكن سُرعان ما تهب الحياة مجددًا و أطيل النظر فى زُرقة البحر التى يستمدها من السماء التى تعتليه .. شعرت أنه يأمرني بالحديث ، رحبت أمواجه بي وازداد اتساعًا فى عيني .. لمست مياهه قدماي كى تحثنى على الكلام ، لقد صفَي ما بداخلى تمامًا و روي الزهرة التى وعدتها بأن أزرعها فى قلبي !
تحدثت معه دون تحريك شفاهي فلابد و أنه يفهمني .. داعبني بنسيمه كي يخفف عني الصراع انفسي الذى أعانيه .. حدثته عن شوقي للنجوم و عن الزهرة التى غرستها فى قلبي و عن مغامراتي و عاداتي و أحزاني و شقائي و سعادتي !.. حدثته عن الكثير حتى أفرغت الثقل الذى حملته على عاتقى حتى كاد يقتلني!
كان يسمعني ويسعي فى محو كل الألم الذى أدركني! لم يترك لي سبيلًا للبكاء.. و لكنه هاهو يجيبنى باحمراره !
يجيبني بانعكاس ضوء الشمس على مياهه .. كان ضوءًا ذهبيًا يخبرني برحيل الشمس ! و كأن البحر أراد تذكيري بعهدي مع النجوم ..
استلقيت على الرمال و بدأت تظلم و تزداد عتمتها حتى ظهر ضي القمر و التفت من حوله النجوم .. قلتُ لها : أنا أنتظركِ ها هنا فدوَت بالصراخ كى أسمعها و قالت " و أنا عجَلت بالقدوم " ..
لا أحب الوحدة لكنى أحب أن أختلى بالطبيعة و أتفرد معها حين أحادثها !
هى البئر الذي أرتوي منه و لا يمل من أنينى و غنائي و تساؤلاتي ! هى ليلي ونهاري !هى اللوحة التى تفيض جمالًأ و لا يشوهها إلا تلك الكائنات التى حظيت بالعيش فيها!
توهجت السماء و التمعت نجومها فتبسمتُ ثم قلت : " فلتحضننى السماء فى لوحتها المُرصعَة بالنجوم "..
التعليقات
بالتوفيق و في إنتظار كتاباتك القادمة .