يَكنَفُ المرءُ جسدهُ توجُّسًا من جريِ حِقبَةِ الزَّمَنِ في قالَبٍ وضع جوف عقلهِ بالعمدِ بينَ جَميعِ البَشَرِ.
لاحَظْتُ على بُعدِ مِتْرَينِ مِصْباحًا منيرًا من ليالي نُوفمبرَ العَطرَةِ وهمساتِ صَفيرِ مطرٍ تلحنُ القلبِ والروحَ والجَسَدِ، بدأت أقطعَ الحاناتِ المُخيفةِ بعدَ ليْلٍ يَدِبُهُ الرُّعْبُ وراءَ جُدرانِ بُيوتٍ تُصْغي بِها إلى الطفرِ العائلي والانقلابِ الزوجي وانهياراتُ أطفالٌ رهبةٌ لِصوتِ الرَّعد.
وصلتْ البيتُ مُتأهبًا لصباحٍ أتَلمَسُهُ بِجَوْلَةِ مطرٍ جديدةٍ،غَطَطَت في نوم بعْدَ يومٍ ارتفعَ فيه سقفُ البُرودةِ لشدةِ طَمَعي في ذهابِ مطرة لنْ تُلامِسني.
ما كُنْتَ أغَطْ في النَّومِ سَريعًا،إما أن أُحَدثَ نَفْسي أو أبدأ بالحديثِ معَ الله وأهدئَ من روعِ الأيام وسُرعةِ السنين وأحيانًا خوفي من المُستقبلِ وتمسُّكي بالماضي،إلا أنهُ يومٌ مختلف،مثلَ كلِّ مرَّةٍ انتابَني فُضولٌ حوْلَ انقطاعِ الدنيا عنْ بعضِها في المدةِ الأخيرةَ واصطفتْ كُلُّ الأحداث حولي،وخوفي على العائلة والأصدقاء من تعكر الحياةِ وانقلابها...إلى أن غفوتْ.
رَمَقَني المنامِ بإسم ما كُنْتَ أستوعب دلالتهُ من قبل،وأناسًا كانوا كتابًا تصفحتَه،ففي الصفحةِ الأولى تبدأ أحداثًا غامضةً سعيدةً وأحيانًا تعيسةً بِحَسَبِ كُلٍّ منها وقصةُ حركةِ استقرارها،ما إن أغلقتُهُ وبخني رَجُلٍ ذا أعينٌ فيها من الألمِ ما يكفي.
قال:ضعْ الكتابَ في مكانِهِ واغرب عن ذلك،فلا مقامَ لكَ هُنا وكن حذرًا في خروجك،فالقصصُ لها بشرٌ يتسكعونَ في حياةٍ لا يعلمُها إلا أصحابَها.
ما إن خرجتْ والخوفُ انطلقَ من رجليّ حتى امتلأني...دقائق قليلة وانهمرت في البكاء.
ما كففت عن العودةِ لمكتبةٍ تعرفُ في كُلِّ أنحاء الدنيا،ومتشوقٌ لكلِّ جدارٍ يصطفهُ الكتب.
قلت لسكرتيرةِ المكتبة:مرحبًا يا غادة،أنا فلان وقد أتيت البارحة،هلا تضعي إلى جانب اسمي كلمات أقولها لك.
غادة:تفضل محمد أنت من اشبيلية المدينةِ الجميلةِ بأناسَها الطيبين،قل ماذا أكتب.
محمد:ذا أعينٌ متألمة
غادة:أتحدثني عزيزي
محمد:نعم
غادة:علمت عن من تتحدث،السيدُ قاسم لا يتحبب لأهل اشبيلية ويميز وجودهُمْ في قرطاجنة،أتمنى أن لا يسبب لك الأذى.
شدتني الكلمات ومشيت نهايةَ الممر،في زاويةِ أحد الممراتِ هناك انعكاسٌ لبشر،ما إن لففت وجهي إذ بهِ السيدُ قاسم.
السيد قاسم:قال أيعجبُ الإنسان أحيانًا من الجمادِ فما بالُكَ بذوي القلوبِ المحملةِ على أكفةِ وجوهِهِم،سامحني عزيزي فليسَ هناكَ من يدري ما به القلبُ أو الجسد والله وحدهُ المبصرُ المدرك.
صحوت على انسكاب الماءِ من فمي ولهاثٍ في القلبِ لن ينقطعَ لما سمعت وما رأيت قبل الدقيقةِ بدقيقةٍ أخرى.
شربت الماءُ الذي سكبتُه وزدت عليه الضعف كي لا أغفو مرةً أخرى،وأنقطعُ عن الحياةِ إلى الأبد لانعكاسِ الأحلام في نفسي.
صحوت من الغفلة ونظرت لأرى كم تكونُ الساعة،ما كانت إلا قبل انطلاقي للوظيفة بساعة،غلوت القهوة كي لا أعود لأنام مرة ثانية وأنا أهدئ من روعِ استعجالي تفكرت الحلم ومرارةَ الواقع.
تلفنت العائلة والأصدقاء ومن له قرابةٌ بكُلِّ صوتٍ رحب.
عدت من الأحلام إلى حقيقة الواقع إذ كانت الحياة بسكينتها على غير العادة فأكون متخوفًا لصدق الأحلام وانقلابها لشيءٍ ما على واقعِ المرء.
انطلقت في قطارٍ للعملِ على لحن مطر يرقعُ كل الأرجاء،وفي عجلة من أمري؛لأن هناك يومان حتى أغادرَ المنزل،وإذا ما سددت إيجارهُ لن أرددَ عنهُ منزلي.
مضت ساعاتُ النهارِ بسرعةٍ حيثُ التف حولها تقلباتُ المزاجِ والعملِ المضاعف والخوفُ من أن لا أساوي بينَ كُلِّ الأشياء.
رجعت البيت مثلما أتيت.
-قد يوقظكَ المنامَ على هاويةِ سقوط،يريك الممات وكيفَ يكونُ الصحو،تخافُ من الضيقِ بعدما تصحو،تراكَ من أنت بعدَ كوابيس الأحلام؟
استطابَ الأمرَّ في الرقودِ بتسرع،كي لا أتفكرُ تفاصيلَ اليوم.
في المنامِ تأتيكَ الأحلام حتى بعدوك،أرى على بُعد بعيد أشخاصًا مقبلين متساوونَ على نغمةٍ واحدةٍ من الرقعِ طبلاً على الطريق.
نظرتهم من نافذةِ الغرفة،صعدوا إلى البيت درجة درجة بنفسِ الطبل،حتى يخاف من يستمع ويرَوْنَ ناظريهم أنهم ملوك المكان.
طرقوا البابَ مثلَ نغمةِ وصولهم بالصراخ وأضافوا عليها اللعنة،اصطفوا صفًا ليروْا من فيهم لديه الشجاعةُ في ضرب الباب حتى انهياره،دخلوا ولم يكن دخولهم إلا ألمًا في الصدر،بعثروا المكان وأطاحوا في أثاثِ المنزلِ بكل ما أتاهم الله من قوة،ما كفوا عن فِعْلَتِهم المُرة فألحقوا بي ضربًا على ضَعْفِ ضرْبِ السجان.
صحوت هذه الليلة على نواحٍ ليس بكاءً،تأكدت أن الحلم ما كان إلا منبهًا لشيءٍ ما سوفَ يحدث.
رجَعت لأنامَ مرةً أخرى لعَلَّ المنامَ يكونُ أيسَّر بعدَ حلمٍ طال.
استقيظت هذا الصباح على قرعِ الجرس،نظرت لأرى من يكونُ الطارق،تحققَ الحلم بغير ألمٍ وصخب.
حملت احتياجاتي وأخذت فندق لأستقر فيه إلى أن يُفْرِجُها ربُّ العباد.
ما مَرَّ الطعامُ والشرابُ من فمي إلا مرة،في سيري للفندقِ ماشيًا،وقبل المنامِ والأحلام مرة.
استحوذَ علي الخوف وبدتْ كُلُّ الليالي معتمة تأتي الي بانتكاساتٍ وسلبٍ لما أملك،حتى أنار الله في عقلي فكرة،أن آتي بقلبِ النهارِ نومًا والليلِ للجدِّ وكسبِ العيش.
غفوت على نورٍ ينيرُ ما مضى وما هو قادمٌ من الأيام.
تلاقيت أبي قبلَ سُقوطي إلى بحرِ الأحلام ولعبتُها في عكسِ سعادتي من فرحٍ إلى حزنٍ ووهم.ما فَعَلَ شيئًا إلا احتضاني ومَساسِي من جُرُوحي حتى تَضْمَد.
نهضت مِثلَما يولدُ الإنسانُ من جديدٍ وإلى جديدٍ آخر.
تلملم شتاتي في لحظاتِ صمتٍ طالت طُوالَ يومٍ بلا عملٍ ولا وظيفة،جالسٌ على أريكة أتأملَ ما بقى ما في داخلي من قوالِبي المضبطة التي لن يَمَسَّها بشر ولن يُرهِقَها التعب.
أقبلت للمنامِ مثل العادة،لكن المنام أقبل علي بحلمٍ كنتَ معهُ على مسارين المُحبِّ لهُ والغاضبُ منه.
أعادت لي الليلة حلمًا أبصرتَ فيه مدى صدقِ الكلامِ وإن كانَ من العيون،وعن مدى تزحلقِ القول وإن كان من القلب إلى القلب،تلاقيت السيد قاسم رئيس المكتبة في قرطاجنة،قلبنا سويًا القصةَ التي تُرْوى في داخِلِنا نحنُ بينَ جميع البشر.
أفاقت لي الليلةَ والليالي النورَ من العتمة،والسَفْح في المعرفةِ من قلبِ الظلام.
-
Razanabumazinرزان عزام أبو مازن،البالغة من العمرِ عشرين ربيعًا،مقيمةٌ في الأردن بجنسيةٍ أردنيةٍ من أصلٍ فِلَسطينيّ من قضاءِ نابلس...الكتابة بالنسبة لي هي المنفذ لكل شيء سعيدًا كان أي حزينًا.