كيف راوغنا الزمن في غفلــــة منّا - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كيف راوغنا الزمن في غفلــــة منّا

  نشر في 08 يناير 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

في مطلع ثمانينات القرن الماضي كنت أحرص على حرث وجهي كلّ صباح بشفرة الحلاقة استكمالا لمقوّمات انتمائي إلى الجامعة... وكان من أكسسوارات ذلك الانتماء جاكيتة العمّال الزرقاء والسيجارة والشال الفلسطيني.

ادركت بقايا من خطباء اليسار بعدما اجتهد نظام الحكم في تطهير الجامعة من أغلبهم... لم نجد من أثر لحمّة الهمّامي سوى أغنية حوّلته إلى أسطورة "طالوا الأيّام يا حمّة طالوا الأيام" كنّا نجوب الكلّيات من المنار إلى 9 أفريل ومنّوبة بحثا عن أثر لهم فتُردّد لنا الجدران أصداء أصواتهم الواصلة إلينا من وراء أسوار السجون "يا قمر طلّيت م العلالي، يا قمر طلّيت من جبل، خبّر الرفاق على حالي، خبّر الرفاق يا قمر"... أعادت إليّ تلك الأغنية برومنسيتها الثورية بعضا من براءة الطفل وخياله بعدما أفْقَدَتْنِيهِمَا صِياعَةُ المراهقةِ في ثانوية قفصة، وصرت كلّما أبصرت القمر تطلّعت نحوه وكلّي يقين أنّه الوحيد الذي يراني ويرى المساجين السياسيين وراء أسوار السجن. ومن ثمّة انتبهت إلى أنّ القمر يشرف على الكوكب الأرضي كاملا فصرت أحمّله رسائل إلى من أشاء في هذا العالم...

كان هناك طلّاب بدأت تظهر عليهم علامات الشيخوخة، ولكنّهم اختاروا على ما يبدو إفناء حياتهم في الجامعة. فيها كانوا يأكلون وينامون ويناضلون ولا يغادرونها حتى في العطل الصيفية. لم يكن بإمكانهم الحياة خارجها...

كنت أنصت إلى خطباء اليسار وهم يتبارزون في البلاغة الثورية دون كبير اقتناع بتلك الفرازيولوجيا الجوفاء التي يلوكونها في كلّ المنابر: على حجرة سقراط، وأمام مشكاة الأنوار وفي الساحة الحمراء، ولكنّ تحفظاتي على تلك الجعجعة التي لم أكن أجرؤ على البوح بها لأحد، لم تمنعني من أن أنتمي وجدانيا على الأقلّ إلى اليسار. فقد كانت القيم الإنسانية التقدّمية والكونية التي يبشّر بها ويدعو إليها، تسحر ذلك الفتى الجنوبي التوّاق إلى الحرية والذي خنقه القرف من خطاب العزّة الهووية الخاوي والطهورية الدينية المسيّجة بأسلاك الخطيئة الشائكة...

مرّت السنوات سريعة وأنا أكرع من أفيون دكتاتورية البروليتاريا المسكر، وأسخر من المدمنين على حشيش الدين المسبّب لضيق التنفّس الفكري... لم ننتبه إلى مغادرة كثيرين من رفاق الجامعة بعد سنة واحدة من التحاقهم بها. لم نكن أفضل منهم، ولكنّها فداحة الفقر لمّا تجبر الواحد على إعالة أسرته. كانت فرص التوظيف في التعليم متاحة، ولم يكن بإمكانهم التخلّف عن الواجب. صاروا فجأة معلّمين وأستاذة يدرّسون في معاهد لم تغادرها حبيباتهم بعد. وكان قليلون منهم يتوجّهون إلى العراق وسوريا وفرنسا لاستكمال دراستهم هناك... ولكن كان هناك عديدون يختطفهم البوليس في المظاهرات ومداهمات المبيتات الجامعية، وحتى في منازل ذويهم أثناء العطل فينتهي بهم المطاف في السجن أو في ثكنات رجيم معتوق. كان بعضنا يكبر بأكثر سرعة من بعضنا الآخر... فالغربة والسجن والخدمة العسكرية والعمل في المدارس الريفية، كانت تحوّل هؤلاء إلى حكماء مجرّبين، في نظرنا نحن الذين لا نزال نتردّد على مدارج الجامعة، ونغنّي لحمّة عن الأيام التي طالت وننظّم رحلات طلابية إلى داخل الجمهورية للالتحام بالجماهير الشعبية.

مثّل استشهاد فاضل ساسي رجّة نبّهتنا إلى أنّ الثورة ليست مجرّد حلم جميل، وأنّها موضوع جدّي يمكن للبعض أن يدفع حياته ثمنا لها. جُنَّ البعض وتحوّل إلى أيقونة على رصيف مقهـــى في الشارع الكبير، وانتحــــر آخرون... لم نكن أقلّ اكتئابا أو ضياعا منهم، لكنّها رهافة الحسّ لمّا تأخذ صاحبها إلى أقصاه...

وكان رفاقنا ممّن صاروا مدرّسين وراء "البلايك" يصرّون على زيارة العاصمة بين معرض كتاب وآخر، فننهبهم نهبا ونجرّدهم حتى من جاكيتاتهم الجلدية الفاخرة... لم نكن أكثر شطارة ودهاء منهم، ولكّنهم كانوا يعاملوننا كآباء يشفقون على بؤس حياتنا الطالبية، فيغضّون النظر على استغلالنا الفاحش لهم...

صرنا نسمع شيئا فشيئا عن اختراقات يحقّقها رفاقنا المدرّسون في نقابات الابتدائي والثانوي. وكنّا نفرح لذلك ونهنّئ بعضنا البعض بهذه الانتصارات. في الأثناء، غرّد البعض خارج السّرب فجرّب الشعر والرواية والمسرح وفيهم من تجرّأ حتى على السينما...

غادر حمّة الهمّامي السجن في أواخر الثمانينات، وصرت أراه يتمشى في الشوارع الرئيسية للعاصمة كلّ مرّة مع شخص. قيل لي أنّه يعقد اجتماعاته ويحاور شركاءه السياسيين وهو يمشي وكانت تلك طريقته في فكّ الحصار البوليسي المضروب عليه. لا أوراق ولا كتابة، كلّ شيء في الذّاكرة. ارتسمت صورته كالوشم في ذاكرتي وهو يمشي مع محدّثه لابسا معطفا شتائيا أخضر بالحا وفضفاضا، يطوي يديه إلى الخلف في مستوى خصره وهو يصغي إلى محدّثه مطرقا تارة ومسرّحا بصره فوق سطوح العمارات حينا آخر، ثمّ يتكلّم بتركيز واضح. كنت أراقبه لمّا يعترضني صدفة وهو يمشي في هدوء يذكّرني بحكماء الإغريق من الفلاسفة المشّائين.

فوجئنا بخيانات البعض وانضمامهم إلى الحزب الحاكم في الوقت الذي صار خبر إصابة أحد الرفاق بالسرطان أمرا مألوفا... كان المرض الخبيث ينتقي كلّ مرّة واحدا من أفضل رفاقنا بيسترقه منّا. لم نكن أكثر منهم انتباها إلى صحّتنا، ولكنّها مخلّفات بؤس الطفولة لمّا تتفاوت درجاتها... أفلت القليلون منّا من فخّ العزوبية القاتلة ليقعوا في فخّ القروض البنكية الأكثر فتكا...

ثمّ فاجأتنا الثورة فهرب بن علي وصعد حزب الغنوشي إلى الحكم وقتل شكري ولم يتغيّر حمّة الهمّأمي...

صار بعضنا وزراء وبعضنا الآخر نوّابا في البرلمان... ولكنّ الكثيرين منّا مازالوا يقفون كلّ يوم أربعاء أمام وزارة الداخلية رافعين لافتة مكتوب عليها "شكون قتل شكري؟"


  • 3

   نشر في 08 يناير 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا