مصر التي في خاطرنا
كانت مصر وعبر التاريخ تمثل في وجدان العرب عموما والسوريين خصوصا الشقيقة الكبرى التي يستندون عليها في أيام الشدة والمحن ، و هي الثقالة التي تعدل الأوضاع في المنطقة ، وتصحح بوصلتها ، وتقلب الموازين في أدق اللحظات التاريخية وأكثرها صعوبة ، وأي حالة عربية نعيشها اليوم أكثر إلحاحا ً من ذلك ، فقد بلغت الأمور مداها ، قتلا وتشريدا وفجائعا ومصائبا ونكبات وكل ما لم نتمناه حتى لأعدائنا.
تتركز بؤرة الفوضى التي تعيشها المنطقة بالحرب في سورية ، والتي ربما تعيش أسوأ كارثة عرفتها البشرية في العصر الحديث بعد الحربين العالميتين ، ولم يبق بلد مؤثر في المنطقة والإقليم وحتى في العالم لم يحصل على نصيب في استخدام سورية كساحة لكل ما يخطر على البال ، من الاستثمار في الحرب والفوضى و النكايات والرسائل المتبادلة بدماء السوريين وأموالهم.
مرت على البلدين ، مصر وسورية ، أحداث وأزمات مشتركة في معظمها خصوصا في المرحلة الزمنية التالية لانتهاء حكم السلطنة العثمانية ( الرجل المريض) ونشوء الكيانات العربية في شكلها الحديث ، واختلطت دماء المشارقة الشاميين والمصريين في أكثر من موقعة وحرب ، ولطالما آمن الشعب العربي في المشرق والمغرب بان المصير واحد والألم والأمل واحد أيضا
تعيش مصر اليوم أزمات داخلية متعددة المستويات تشغلها عما يدور حولها ، وتحد من دورها الطبيعي تجاه أشقائها في المنطقة ، وفي المقابل فان تدخلها لإصلاح أحوالهم قد يمثل في الوقت ذاته مخرجا لها من تلك الأزمات ، فالأوضاع العربية مترابطة بشكل شديد ، وكل خير يصيب احدها سينعكس بالتأكيد على الآخر كما أن الشرور بدون شك ستؤثر على الجميع . ينطبق هذا الأمر على ما يجري في سورية ومسؤولية مصر تجاهه.
فالروابط الوطيدة التي تجمع البلدين والشعبين تحتم على أية قيادة تدير دفة الحكم في مصر أن لا تتجاهل ما يحصل في سورية وأن تحرص فيها على الدولة ومؤسساتها و على الأرض و الشعب ، وبالتالي الدفع باتجاه إنهاء معاناة السوريين ووضع حد للأزمة الشديدة التعقيد التي تعاني منها سورية ، ومحاولة التمهيد للتسوية التاريخية التي ينتظرها الجميع بفارغ الصبر.
إن اشتعال فتيل الصراع المحموم في المنطقة ، وتحوله لصراع بين مكونات الأمة ، تلك التي كانت إلى زمن قريب متجاوزة لهذه الخلافات ، أو متجاهلة لها ، يتطلب التذكير بحقائق وأحداث على امتداد قرون مضت تعاكس كل الخطاب الذي يصب الزيت على نار الفتنة المذهبية والطائفية المقيتة .
فبالأمس القريب كانت الجماهير من أقصى الوطن العربي إلى أقصاه تهتف بهتاف واحد ضد الاستعمار وضد التجزئة والانقسام والفرقة ، ومع الاستقلال الوطني والقومي ، و مع القضاء على التخلف والجهل ، وتدعو لنهضة الأمة بكل مكوناتها ، لم يكن يثار يومها أي تساؤل عن ماهية هذه التكوينات ومن الذي ينتمي إليها ، فلم ينظر احد إلى دين الشهيد جول جمال مثلا حين كانت كل الجماهير على مستوى الأمة تغلي لتواجه عدوان من يدعون أنهم اليوم ( أصدقاؤنا) ، ولم يعرف احد خلفية معظم عظماء الأمة ورموزها ، وعرقهم ولونهم في مصر وسورية وغيرها من الأقطار العربية ، هذا ما لا يجب أن ينساه القاصي والداني و مروجو الفتن .
لم ينس كثير من السوريين أيضا أنهم كانوا مواطنين في دولة الوحدة السورية المصرية ، الجمهورية العربية المتحدة ، وأن الجيش الأول في سورية والجيشين الثاني والثالث في مصر ، كما حرب السويس وهبة السوريين نصرة لمصر وللمصريين ، و تحمل مصر عبء الدفاع عن سورية إبان مؤامرة حلف بغداد ، وتهديدات تركيا يومها ، وبعدها حرب حزيران وأساسها التهديدات الصهيونية لسورية وتداعياتها ، وما زال كثيرون أيضا يعيشون حتى وقتنا الحاضر ذكريات ذلك الزمن الجميل ، وربما تكون المحنة التي تعيشها سورية اليوم قد بدأت علاماتها وارهاصاتها في يوم الانفصال المشؤوم ، ما أكثر المحطات المشرقة والمشرفة للعلاقة المميزة بين البلدين و التي لن ينساها السوريون .
بعد أربع سنوات على الوضع الكارثي في سورية وتداعيته على المنطقة برمتها حان الوقت لكي تتدخل الدولة التي مازالت تحظى بالاحترام لدى شرائح واسعة من السوريين فهي الشقيقة الكبرى صاحبة القدرة على بعث أمل بفرصة الحل أو التسوية التي ينشدها الجميع.
مصر التي يجب أن تكون قوية مستقرة تعرف طريقها باتجاه التقدم والنهضة ومكانها الطبيعي في قيادة المشروع النهضوي العربي لا بد أن تدرك حقيقة ارتباط مقومات النهضة فيها بما يجري حولها ، سواء ببقاء الكيان الصهيوني باعتداءاته المتكررة على الشعب الفلسطيني دون ردع ، أو باستمرار الأزمة في سورية وتعمقها وذهابها من سيء لأسوأ ، وبالتالي لا بد من المساهمة في وضع حد لهذه الأزمة والتخفيف من معاناة الشعب السوري والشعوب التي تعاني تداعيات الأزمة السورية ، فالأمن القومي لمصر والواجب الأخوي والالتزام الديني و الأخلاقي والإنساني يفرض عليها ذلك ، وأي دولة أولى من مصر بالتدخل للعمل على ذلك.
لقد هام السوريون على وجوههم وتكلفوا طيلة الأربع سنوات الماضية ثمنا باهظا لما يجري في بلده وعليها ولم يبق لهم حيلة ولا قدرة على الدفع والضياع أكثر ، وتبقى حتى اليوم مصر الدولة الشقيقة التي لم تلعب بمصائر السوريين وبلدهم ونستطيع أن نقول أنها ما زالت تحظى بثقة اغلب السوريين ومن هنا قدرتها على التأثير على الأطراف المتحاربة في سورية وعليها ، وابتداء مسار الحل والتسوية ، لتحقيق إرادة وأحلام وطموحات الشعب السوري في حياة حرة كريمة في دولة العدالة والمدنية والقانون ، هذا ما نتمناه ونرجوه ، وهذا أملنا وعشمنا بالشقيقة مصر التي في خاطرنا ( نحن السوريون )