قيم الدولة القوية و أساس الداء في العالم العربي
نشر في 26 أكتوبر 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
في هذا المقال لا أدعو إلى الدولة العلمانية، بقدر ماهو تحليل بسيط و منطقي لقيم الدولة القوية، المرجو الإتمام للنهاية لمعرفة الفكرة العامة.
لم يسبق لي أن تحدثت في السياسة، لكن مؤخرا لفت انتباهي تصريح عنصري لسياسية فرنسية في أحد البرامج التلفزية ONPC - On n'est pas couché ما ترجمته (لا زلنا مستيقظين)، تقول فيه أن فرنسا دولة يهودية نصرانية بعرق أبيض. لكن ما أثار انتباهي أكثر هو النقد الشديد الذي تعرضت له من صحفيي (Lea Salame, Yann Moix) و مقدم البرنامج (Laurent Ruquier). مهنية فريق العمل الصحفي الكبيرة، و القيمة الفكرية التي يقدمها البرنامج هي ما تجذبني دائما لمتابعته.
صرحت هذه السياسية بأنها لا ترغب في يوم من الأيام أن تصبح فرنسا ذات أكثرية مسلمة لكن الصحفي أعطاها درسا في معنى قيم "الدولة العلمانية" l'Etat laïque و هي أن من ركائز ها أن لا يطرح الفرد التسائل حول الأكثرية الدينية أو العرقية أو المذهبية،و الإسلام ليس إستثناء من باقي الديانات.
في نفس السياق لفت انتباهي كيف خصص ملك المغرب استقبالا كبيرا للرئيس الفرنسي، و كيف يتعامل الفرنسيون و الصحافة الفرنسية مع رئيسهم: محاسبة و سخرية دائمة، باعتباره موظف دولة يقوم بمهمة موكلة إليه. نتساءل كيف ممكن لشعب أن يسخر من رئيسه الذي هو هرم السلطة وفي نفس الوقت هناك تماسك شديد في بنية الدولة و الأجهزة، بعبارة أخرى رأس الهرم هو عنصر بسيط لا تتأثر بنية الدولة بغيابه.
هناك شيء خاص في الديمقراطية الغربية و الفرنسية على الخصوص تعجز عن وصفه، يوحي لك أن الأنظمة القوية تبنى بقيم المساواة، بالثقة، بالأفكار، البساطة في العلاقات، الشفافية وعدم الغموض، العمل، المنظومة، كلها عوامل تؤدي إلى قوة كبيرة للنظام. لا أجد أفضل من مصطلح البساطة و الشفافية في كل شيء.
يبنى فكر المواطن العربي دائما على أنه توجد قوة خفية تتحكم و تصنع القرار الغربي، تسيطر عليه و تمنع الإنسان العربي من عمل أي شيء: ماسونية، صهيو أمريكية.... ..! لكن ما اكتشفته و أحمد الله أني لم أعد مغيبا، هو أن الشفافية الداخلية هي ما يميز السياسة الغربية، يعني الشعب الغربي لا يقبل إلا بالشفافية في كل شيء.
إذا ما عدنا إلى توصيف سلطة الأنظمة العربية، علاقتها بالشعب، ستجد الغموض، الاستبداد من القاعدة إلى رأس الهرم، سلطة الفرد، هشاشه في البنية و ترابط في رأس الهرم، غياب شبه تام للمحاسبة، كل يوم رئيس هيئة حماية المال العام عنده تقرير اختلاس بدون تحريك مسطرة قضائية من الحكومة، برلمان ضعيف جدا ..
تذكير بنعمة الأمن و الاستقرار
في المغرب يذكرنا رئيس الحكومة أن الزيادات في الأسعار و عدم نزول أسعار المحروقات التي تقرها الحكومة، هي بدافع الحفاظ على صندوق الدولة و الاستقرار . كما يتم تذكيرنا بنعمة الأمن الذي نعيشه في بلدنا.. لكن دعني أقل لك أن الأمن الذي يعيشونه في أوروبا لم تره عيني قط، بإمكانك أن تتجول في أي ساعة و في أي وقت بدون أن يضايقك أحد، كما أني طوال سنة و نصف لم أشاهد عراكا حادا بين شخصين على الطريق .
الشرعية تستمد من الإنجاز
في دولة مثل فرنسا، غير ممكن تواجد أشخاص تافهين لم يفرضو أنفسهم إلا ب "السبهللة" كما يقول الأشقاء المصريون لاعتلاء المنابر السياسية، لأن السياسة ليست مسابقة شبابية لل casting، ندخلها للفوز. استدعاء هؤلاء للحضور في منصة إعلامية راقية كمنصة ONPC كفيل بجعلهم يتبولون في ثيابهم و لا يعودو للسياسة مرة أخرى.. في الدولة القوية الشرعية لا تستمد من السماء"Tomber du ciel"، لا تستمد من العائلة أو الأب، الشرعية تستمد من العمل و الإنجاز، من السيرة الذاتية.
في الدولة القوية لا يمكن بحال من الأحوال أن تخصص ميزانية خيالية ك 240 مليار للقصر أو لشخص واحد بينما تعاني معظم الأماكن النائية في المغرب من الهشاشة و الضعف.
خلاصة القول
تريد بناء دولة قوية و ديمقراطية عتيدة إهتم بالمجالات التالية
محاربة الأمية: محاربة الأمية و تنوير المجتمع لمعرفة قيم الفرد و المواطنة هي أول ما يجب القيام به.
القضاء: الحفاظ على استقلالية و نزاهة القضاء، فالقاضي هو من يحكم، وله سلطة مستقلة عن الحكومة، وله الصلاحية التامة في متابعة الجميع.
الصحافة: صحافة قوية تحاسب وتقوم بتحريات علمية تقتلع المفسدين و تراقب المال العام.
الحفاظ على المال العام: لا يوجد شيء اسمه مال الدولة أو مال الحكومة، هناك مال الشعب يجب أن يعود لخدمته.
كمثال Cash Investigation هو برنامج فرنسي أنصح بمتابعته يقدم تحريات علمية عن المال العام، ميزانية الدولة، و متابعة كيفية استغلالها،هذا البرنامج تعرفت عليه من خلال أحد الأصدقاء. و قد عرفت من خلاله قيم الصحافة الحقيقية.
في عالمنا العربي الكل مستبد
أكيد أن من سافر إلى أوروبا و أمضى بعض الأشهر سيعرف معنى الاستبداد الذي نعيشه كل يوم، و معنى أن تقابل بالبسمة و الاحترام و عبارة Bonjour في الصباح و Bonne soirée في المساء. لماذا نذهب بعيدا ؟ أنا الآن في مدينة تطوان أقصى شمال المغرب، و هذا الإحساس يعرفه من يزور مدينة سبتة المستعمرة الإسبانية المتواجدة في التراب المغربي بالقرب من مدينة تطوان، ستجد الاختلاف، النظافة، السكينة، الاحترام على بعد أمتار قليلة من المعبر الحدودي بين الفنيدق المغربية و سبتة الإسبانية:موظفو الخدمات غير مستبدين، الأطباء غير مستبدين. هناك ستسمع عبارة صباح الخير Buenos dia و مساء الخير Buenas noche بالأسبانية، من شرطي الحدود الإسباني الذي حالته الجسمية توحي بالخير، ما لن تسمعه من الشرطي المغربي الذي تجد كافة مظاهر البؤس عند النظر إليه، و لن تحتاج منه إلا أن يتركك لتعبر في أسرع وقت.
في عالمنا العربي الكل مستبد،حتى من تدفع لهم فهم غالبا مستبدون. الطبيب يشعرك بالاستبداد عندما لا يستقبلك بالبسمة و المصافحة كما لو كان الطبيب الأوحد في الكرة الأرضية. عند أداء فاتورة الهاتف أو الكهرباء يشعرك الموظف كأنه يقدم لك خدمة مجانية. عندما تذهب للبنك لفتح حساب تجلس مكفهرا، و كأنهم سينفقون عليك من مالهم.
الإستبداد مرض ونقص، بدونك هم لا شيء، انتفض!
مرجع
للمزيد عن الموضوع وأساس الداء في العالم العربي أنصح بقراءة كتاب: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمان الكواكبي.
-
عبد الله العبُّوس - Abdellah El Abbousشريك مؤسس لمنصة مقال كلاود، وشركة خدمات الويب ديفين ويب - مهتم بخدمة الويب، المحتوى العربي الإليكتروني، القراءة، ريادة الأعمال - أنشر بين الفينة و الأخرى بعض الخربشات
التعليقات
ربط المسئولية بالمحاسبة هي مشكلتنا الكبرى في العالم العربي مقال رائع مفيد جدا..
سيد عبد الله اشكرك على المقال و ما يرافقه مقالا متكاملا طرحا و مضمونا ــ تحياتي ـ
أما بالنسبة للدعوة للانتفاضة في اخر المقال , فأهم ما في الانتفاضة هو وضع خطة محكمة للاصلاح قبل القيام باي تحرك شعبي لأن المظاهرات فقط دون خطة للاسف تتحول لمجرد هتافات فارغة , هذا ما تعلمناه في مصر خلال الاربعة اعوام الماضية
المحبـط أن هنالك مبـاركة لهذا الإستبداد - بشكلٍ أو بآخر - وبقيادة شخصيات مؤثرة في المجتمع سواءً من كبار أفراد المؤسسة الدينية، أو الإعلامية، أو النخب بشكل عـام - والتي تمارس دوراً مناقضاً لمثيلاتها في أوروبا، مثـلاً. وهكـذا يصبح الإستبـداد هو الأساس والثابـت، وتُقلـب الحقائق في أذهان الناس - كما يقول الكواكبـي.
لكننا نعرف أن كل شي قابل للتغيير، وأعتقد أن هذا مايجب أن ندركه جميعاً.
شكراً لك أخي عبدالله :-)