لم أكن أرى طبيعة الكون بجمالها كما تُرى ببصيرة العقل الراجح والرأي الواضح، لأن النفس الجاهلة عِلم الله لا تستوعب صَنعته استيعابا كاملا بل ناقصا، حتى تغيب عنها تفاصيل أولية لا غنى عنها ، فتصير إلى سبيل منحرف يؤدي إلى الضلال وإلى الجهالة وإلى اضطراب نفسي يصرع صاحبه ويُتعس أحواله ، غير حصيف بمآلات الأمور ، لا يستنبط أسرارها ولا يَتَغَوَّر بواطنها ولا يستفسر عن تعقيداتها ، حتى يخوض فيما لا نفع منه ،لأن عقله آفل ونفسه حاكمة حُكم السلطان المُتَجَبِّر الذي لا يقضي بالعدل ولا يُنصف بالعلم .
فكيف تستدرك العاقبة قبل وقوعها وتنتزع الداء قبل استفحاله بغير عِلمٍ يُنَبِّه العقل ويُثمر اليقين!؟
وإن التدبر ببصيرة علمية تُخرجك من قوقعة الجمود الفكري إلى مواقع إدراكية شتى.. حيث تكتشف بواطن الأمور حق الإدراك ، وواعٍ بتناقضات تلك المراجع ومُقارنا بين تلك الإشكالات المُبهمة ..ولا يَتِمُّ ذلك إلا عبر قراءات عديدة وتجارب تسلسلية ..مستهدفا جُلَّ وقتك بين زوبعات الإعلام وسموم بعض الأقلام في البحث والتنقيب في بطون كتب التراث الإسلامي التي تنهج منهجا نبويا متكاملا ، ومتأملا في براتينها تأمل الطائر من أعلى الأرض يرى كل شيئ صغيرا وكلما اقترب اكتمل كل ناقص واتضح كل غموض و انقشعت الغَشاوة عن مقلتيه ، فذلك هو عين العقل وأُسوته.. وليس اتباع كل ناهقٍ ينُدِّد ويردد نداءات تُدُعِّم الدَّاعي إلى الجَهل وإلى الحماقة اسرافاً وتطَرُّفاً و خضوعاً كالأنعام.
وليس من الغريب بل وليس من العجيب أن ترضخ النفس للهوى والعقل راقد في عزلة عن حقيقة الإيمان بالله و هي تتلهى بشهوات الحياة وملذاتها مُعرضة عن معرفة إسلامية مَحضة هي مرجعية إلاهية كاملة لا نقص فيها ولا عِلة بيِّنة ، بل دواء للقلوب السقيمة وغذاء للعقول السليمة ، ولا يُعرض عنها إلا أحمق عَلِم الحق ثم غَفَلَ عنه وأما الجاهل فإن عرف الحق مال إليه وما أكثر الحمقى في هذا الزمان الذين يُدَعِّمون أمثالهم في نشر الجهل وتشكيك المسلمين في دينهم وتغريبهم عن الشريعة الإسلامية ..وما كل هذا إلا نِتاج فاسد وجُهدٌ زائل لا بَركة فيه؛ بَل غَيٌّ يَشُقُّ على النفسِ ويُذمي القلب . فالذي فشل في تأسيس بناء فكري متوازن يُقوِّم أفعاله، فذلك مُنوط باختياره أهدافه والطرق إلى نيلها والوصول إليها وما كان لعاقل أن يبيع نفسه للهوى من أجل لذة عابرة متكررة لا تُشبِع الشهوة بل تُهيِّجها حتى تصير ادمانا لا يستطيع أن يُفارقه ..مدبدبا بين هذا وهذا لا يفقه قولا ولا يعي سلوكا ..تزعزعه آفات الدنيا و تزريه مطبات الحياة حتى لا ينال منها إلا حضيضها ..وإن نال ذروتها !! فلن يصير بعدها إلا إلى قبر ضيِّقٍ يُعذَّب فيه بما ترك وراءه من أعمال فاسدة و أضرار سائدة..بسبب تفويضه كلَّ أموره للنفس التي إن سَكَنَ إليها خُدِعْ وإن اغْتُرَّ بها صُدِعْ..فهي مائلة للتمرد والطِّيش والمكر ..وإن غالَبَها بغير حِكمة إيمانية غُلِبْ ، فلا سبيل إلى النجاة من كَيدها إلا باتباع كتاب الله وسُنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم..
وحديثي عبر هذه السطور مَغزاه بَيِّن وليس بِهَيِّن ، ومعناه واضح للعَوام ، وأما من يفوقني أسلوبا أدبيا وفكريا ، فأنا لست بِنِدٍّ له ، بل تلميذه النجيب الذي يتقبل منه النقد البناء و الرأي المُقسط ويسعى إلى دعمي و توجيهي توجيها علميا ، فتلك جائزة لا تقدر بثمن و لا تعطى إلا لمثابر عازم و متعلم حازم ..وتعرضي للخطأ مُتَوَقَّع ، فليس لي من الكمال شيئا ولا من التمام نهايةً..فقد قيل لحكيم : "ما جِماع العقل؟ فقال : ما رأيته مُجتمعاً في أحدٍ فأصِفُه وما لا يوجد كاملا لا يُحَد." ولكن طول التجربة مع التعلم ، تُنَمِّي العقلَ و تُكَمِّلُ نقصانه مع الهِمَّة التي لا تَعرفُ وَهَناً ولا تراجُعًا ولا استسلاماً .. و كِياسةً في الإختيار و دهاءً في استعمال الجدارة بغير عَجلةٍ ..فالعاقل يتمهل ولا يتعجل ، لأن العجول كثيرا ما يقعُ في فوهة النِّسيان و قد قيل : "العجلةُ أُمُّ الندامات " . فقليل مُجدٍ خيرٌ من كثير مُعدٍ .
ولست أبتغي من هذا التأليف البسيط فضلا من الناس بل جزاءً وتوفيقا من الله . وقد يوجد بين كلماتي عثرات وبين معانيها تضاربات ، فلكل شيئ نقيضه ولا يستوي النقيضان ؛ ولكن جُعلت الأخطاء مَعبَراً للتصحيح و التناقضات مسألةً للفهم والتعبير ، حيث تُستخرج منهما تفاسير و تُستَدل منهما شروحات لِكُلِّ لُبُسٍ خَفِيٍّ ، حتَّى تُصلح عللها وتُحَل عقدها ..
يتبع..
-
محمد أمين العلويمحمد أمين العلوي ، من المغرب ، حاصل على دبلوم التمريض ، وحاليا أعمل تاجرا ، محب للمطالعة والكتابة..