الدهشة والفضول هما وقود عقل الإنسان على مر العصور ، فعندما يطرأ أي جديد على الإنسان يحاول بما لديه من إمكانات عقلية ومنطقية أن يحلل هذا الجديد الذي أثار دهشته وعلى إثر تلك الدهشة يتولد الفضول في ذات الإنسان فيصبح بعد ذلك شغوفا في تحليل ومعرفة ذاك الجديد وعند ذلك تشتعل شرارتان في نفس الإنسان ، الأولى هي الشغف والثانية هي الأمل فيتحول هذا الكائن الكسول إلى كائن شغوف ونشيط يحركه الفضول إلى هذا الجديد المجهول ، فالعلاقة الآن لم تعد بين الدهشة والفضول بل أصبحت بين الدهشة والشغف ، وهذا ينطبق على كل إنسان فكلٌ منا يدهشه شئ ما في هذه الحياة سواء كان ذاك الشئ مادياً أم روحياً أم عقلانياً ، فالفيلسوف يدهشه العالم فيبحث عن مكنونه وماهيته ويصبح شغوفاً بمعرفة أسراره ، والمتصوف تدهشه الراحة الأبدية والعالم الروحاني الميتافيزيقي فيصبح شغوفاً بالعبادة المستمرة لأنها وسيلته للتواصل الدائم مع معبوده وبر أمانه للراحة الأبدية ، وجامع المال تدهشه قوة ما يحققه هذا المال فيصبح شغوفاً في جمعه، إذاً فالعقل يبحر في هذه المراحل الإنتقالية من الدهشة إلى الفضول إلى الشغف إلى هدفه المراد تحقيقه مروراً بالمعرفة والعلم -أقصد بالعلم هنا هو مطلق العلم أي أياً كان ما يتعلمه الإنسان وليس العلم بمصطلحه الحديث- ، فمن يصيبه الدهشة يحركه الشغف ويتخذ من المعرفة وسيلته للوصول إلى ما يريد فمن يريد المال يبحث ويتعلم ويحاول معرفة طرق الغنى ، ومن يريد فهم الوجود يتأمل فيه ويقرأ الكثير حتى يعرف ويعلم عنه ، إذاً فوسائل الإنسان حتى يصل بدهشته إلى مراده هي النشاط والمعرفة.
وهنا عندما يتسلح الإنسان بالنشاط وحب المعرفة ويأخذ معه أعوانه (الفضول والأمل) ليواجه وحش المجهول حتى يصل إلى الكنز وهو هدفه يجد طريقين للسير فيهما ، فالأول هو طريق به وحش المجهول وليس به أي كنز أو نتيجة حقيقية ، والثاني هو طريق به وحش المجهول وبه نتيجة وكنز حقيقى ، فالطريق الأول هو طريق الفلسفة فلا يشترط أن يصل الفيلسوف إلى أي نتيجة بل هو يظل يبحث ويتأمل ويفكر ويقرأ وليس شرطاً أن يصل إلى أفكار وحقائق نسبية له ترضي فضوله وسعيه بل يمكن أن يظل حائراً فقط بين الأفكار وحتى وإن وصل إلى شئ يرضيه فهذا ليس معناه أن هذا الشئ الذي علمه هو الحقيقة حقاً فمشكلة الفلسفة أنها حلقة مفرغة تسير فيها فقط بلا نهاية لا تعرف كيف تصل إلى مركزها ، والطريق الثاني هو طريق الشهوات المادية والروحية.
ولكن ماذا بعد الوصول إلى المراد ، فل سيخلق هدفاً آخر ومراداً آخر يسعى إليه ؟ وماذا بعد أن يصل إلى هذا الآخر والذي يليه ؟ هل سيسير في حلقة لانهائية من الأهداف هو نفسه لا يعرف أين تنتهى ؟ ، ما سيحدث فقط أنه سيصاب بالملل جراء كل ذلك الجهد الذي بذله في سبيل أهدافه ، فسيكون حيناً ناقماً على عدم وصوله إلى ذلك الهدف الذي كان يسمو إليه الذي هو نفسه لا يعرف ما هو و حيناً آخر شاعراً بالملل جراء ما يفعل لأنه لا يفهم ما معناه ويعلم أنه لن يصل أبداً إلى ما كان يتصوره عندما بدأ رحلة الفضول تلك ، فالفيلسوف وإن قرأ كتب العالم أجمع هو يعرف أنه لن يصل إلى الحقيقة وجامع الثروات وإن جمع مال الأرض كله سيتسائل لماذا فعل ذلك ، لماذا إذاً يبذل الإنسان جهده في سبيل شئ لا يعرف آخره وفي سبيل شئ هو يعلم أنها لن ترضيه فماذا بعد أن يشتهر طالب الشهرة ويغتني طالب المال ويصبح طالب العلم عالماً ، ماذا بعد إرضاء الشهوات المادية والعقلية ، لا شئ.
إذاً فالعلم بالشئ جهل به والجهل بالشئ علم به والنشاط للوصول هى كسل في آخره والكسل وعدم فعل شئ هو قمة النشاط ، فإذا علم الإنسان أن لا سعادة في نهاية الطريق الذي يسعى فيه فلماذا إذاً بذل الجهد ، لماذا لا يكون فقط راضياً على كسله وجهله ، لم الإقدام على شئ لا ضرورة فيه ولا نفع حقيقى منه ، فإذا أراد الإنسان تعلم شئ حتى يزيح جهله فتعلمه فسيعود بعد ذلك إلى حالته الأصلية قبل الجهل بذلك الشئ فالسعادة كانت جزئية فقط وليست دائمة ولكنه بذل جهداً كي يصل إلى تلك السعادة الجزئية وإذا أراد أن يأكل فاكهة معينة وبذل جهداً للحصول عليها واستمتع بأكلها فبعد بعض الوقت سينسى طعمها وسينسى سعادته في تناولها ف إذا كان لا طريق إلى سعادة مطلقة لماذا بذل الجهد والإرهاق والتعب وخلق الأهداف والأحلام في سبيل سعادة جزئية ؟.
(الجهل والدين)
المبدأ الإلهي في في الأديان الإلهية في التعامل مع المخالفين لهذا الدين والمعتقد هو عقاب أبدي في جحيم أزلي لا مخرج منه ولا مفر ، ولكن العدل الإلهي في ذلك الأمر يشترط أن يعرف ذلك المخالف عن ذلك الدين فإذا عرف بوجود الدين المعين هذا ولم يؤمن به يكون عقابه ناراً لا تنتهي ، فمثلاً في دين الإسلام هذا النوع من البشر الذين لم يعرفوا شيئاً أبداً عن الإسلام يسمون أهل الفترة ويكون لهم اختباراً آخر عند قيام الساعة.
ولكن ماذا يحدث عندما لا يعلم الإنسان عن هذا الدين أصلا أو صحته ، إذاً فلا ينطبق عليه تلك الشروط التي تجعله خالداً في هذا الجحيم الدائم وهنا تظهر بعض مبررات ضرورة الجهل والكسل ف بجانب أنه لا ضرورة في العلم و بذل الجهد يتضح أن محاولة المعرفة في بعض الجوانب يكون نتاجها كارثياً فستجعل الإنسان معرضاً لنار أبدية في بعض الأديان ف إذا عرفت هذا الدين وقرأت عنه وكان من معتقداته هي معاقبة المخالفين له أشد العقاب كنت أنت أيضاً معرضاً لهذا العقاب إذا لم تؤمن به ، فإذا كان الجهل والكسل يجنبنا من عقاب أبدي فلم العلم والجهد ؟