قَــارُورَةٌ تَحْـِبلُ قِصَـصًا !!
تبدو الحياة مملّة عسيرة عند البعض، مفرحة يسيرة مع آخرين، فإن لم تغذي روحك وقلبك بالقراءة والمطالعة سيصيب قلبك الفتور والهجران للدنيا فتصبح مكبّلا غارقا تائها. كما حصل لبطل قصتنا التي بين أيدينا.
إنها قصة شاب ضاقت به السُّبل وسُدّت في وجهه كل الأبواب، ليصبح يائسا بائسا، تُثقل كاهله أكوام الغبن، بل هي مغبة سهوه ولهوه مما جعلا منه إنسانا فاشلا تخلّى عن حلم أبويه، الذي قطعه على نفسه لحظة موتهما إثر حادث مرور مروّع خطفهما في ربيع عمرهما المزهر.
إذن هو اللوم الذي يؤرق صاحبنا، ويجعل التسكّع في الشوارع ملاذه الوحيد ليلا وممارسة هواية النوم نهارا، لعله بهذا التصرف يدار عن أعين الحقيقة التي تلاحقه أينما حل أو ارتحل.
وفي مرة من المرات، بينما بَطَلُ قصتنا يتجول كما جرت العادة على ضفاف بحر مدينته إذا به يلمح قشة تطفو على السطح ينبعث من جنباتها ضوء ساطع يتلألأ... رابه أمر ذلك الشيء، ولأن صاحبنا شغوف بتقليب الأشياء لعله يقتات من تحتها شيئا قد يمحو أو يُذهِب شقاءه و لو لفترة وجيزة . رمى بيده صوب القشة، وإذا به ينتشل من تحتها قارورة مقفلة بإحكام.
تحوي بداخلها ورقة غريبة.. أصاب صاحبنا الفضول بل لبس ذهنه، فراح يفتحها لقراءة ما تحويه تلك الورقة، لكن هيهات لم تُفتَـح ! أعاد الكرة بعد استجماع قواه التي هي في الأصل منخورة، إلا أن محاولاته باءت كلها بالفشل..
حينها قرر كسرها بشيء صلب إلا أن محاولته الجديدة لم تجدي نفعا مرة أخرى… .
لكن إصراره على معرفة ما تحتويه الورقة جعله يتوجّه إلى البيت مباشرة، صاحبا معه تلك القارورة التي شدت تفكيره مطولا... وما هي إلا سويعات حتى باغته النعاس وأنساه أمر القارورة .
وفي الصباح الباكر وعلى غير العادة أفاق صاحبُنا على صوت المؤذن وهو ينادي (حيّ على الفلاح! .....) فوقعت عيناه على تلك القارورة، أخذ يمعن النظر فيها ثم توجّه من أجل حملها، و بمجرد وضع يده عليها إذا بالقفل يسحب من تلقاء نفسه من دون قوة أو عناء يُذكر! .. صُعِق صاحبنا، واعْتلَتْ محياه الدهشةُ والحيرة وانعقد لسانه عن الكلام... لم يصدّق ما جرى!.. بعدها استجمع أنفاسه والتـقط الورقة التي بدت غريبة الشكل واللون والملمس والرائحة، كأنها من زمن آخر.
بدأ يقرأ ما تحويه، وإذا هي بقصة مثيرة عجيبة، تتّسم بالتشويق والِإمتاع... كلماتها لها إيقاع يشد القارئ وتأخذ ذهنه في نزهة، تحول اللحظة إلى تحليلات متأنية، لها وقع على النفس نظر لبهوه، ولها مقدرة في ردوخ المتلقي لتقمص الدور، ليجد نفسه يعيش مغامرة فريدة من نوعها كأنها حلم حقيقي!..
وبعد وقت قصير أكمل صاحبنا القصة، و استفاق من حلمه مستغربا كما لو أنه خرج من بوابة الزمن. أعاد الورقة إلى موضعها الأصلي، وعاد لاستكمال يومه بالنوم .
وفي المساء استيقظ على ضوضاء الشارع فتوجّه بمشيته المتثاقلة المنهكة من كثرة النوم نحو القارورة التي أثارت حافظته أمسك بها محاولا جعلها تفتـح، من تلقاء نفسها، إلا أنها لم تفتح حاول بأنامله إلا أنها استعصت عليه... اِستسلم واستغرب ظانا بأن ما حدث صباحا مجرد حلم أو كابوس.
أعادها إلى مكانها وانصرف خارج البيت من أجل ممارسة هوايته المفضلة ألا و هي التسكع في شوارع مدينته الموحشة ليلا. وبعد وقت طويل عاد إلى البيت بعد ما نال منه التعب قسطا كبيرا فخلد إلى النوم.
وفي اليوم الموالي حينما كان يهم صاحبنا بالخروج، تذكر تلك القارورة فقرّر أخذها معه قصد رميها في طريقه، وما إن وضع يده فإذا بالقفل يُسْحَب لوحده، تفاجأ صاحبنا للحظة ثم اِلتقط الورقة وبدأ يمعن النظر فيها، فإذا بعنوان القصة يتغير ومضمونها يتحول إلى مغامرة أخرى .. جديدة!..
اِنغمس صاحبنا بقراءة محتواها الذي جدﱠ فجأة من دون أن يمس الورقة قطرة حبر.
هي قصة جديدة جاء الكلام فيها مستويا، بكل معاني اللغة مرتويا، تحكي عن مدينة تباح فيها الأحلام، مدينة تظهر القصة فيها رقة لوصف أزقتها، طبيعتها أنقى، وأوسع وأرحب مما اِعتاده صاحبنا. أسلوب العيش فيها غير مكلف، تجد كل ما تشتهيه النفس، يفترش أهلها العشب ويتوشحون الورد، حياتهم كلها بذخ بل مفاتن الدنيا هي من تغازلهم.. مدينة لا تتدحرج في أزقتها أكوام الشوك بل أكوام الحب والشوق.
سرح صاحبنا وطار بخياله إلى تلك المدينة الساحرة، و بدا كما لو أنه فرد من أهلها. وما هي إلا لحظات حتى استفاق على كذبة تكاد تنطوي عليه. بعدها توقف مع ذهنه وبدأ يطرح عليه أسئلة. لِمَ تغير مضمون الورقة؟ و لِمَ لمْ تفتح القارورة في وقت آخر غير هذا الوقت المحدد؟ أسئلة عليه انتظارها لليلة الموالية، حتى يتم الإجابة عنها.
وفي الغد اِستيقظ صاحبنا باكرا، وتوجه مباشرة إلى تلك القارورة من أجل فكّ رموزها، وما إن لمسها إذا بالقفل يسحب لوحده. تناول الورقة وأخذ يقرأ ما تحويه وإذا بشك صاحبنا كان في محله، قصة أخرى جديدة! .. إذن هي معجزة يصعب تصديقها..
وفي أعقاب تلك اللحظة الفارق، أدرك صاحبنا بأن الله قد منﱠ عليه بهذه الهبة التي ستقلب حياته مائة و ثمانون درجة إن أحسن استغلالها، ومن ذلك اليوم واظب صاحبنا على قراءة القصص وأمعن عن كثب في نتائجها و الهدف من كل قصة.
فبدأ حاله ينصلح .. حينها ألغى نظرته السوداء للحياة، وتفتقت من بين تقاسيم وجهه ابتسامة غيَّبها سلوكه المشين لسنين طويلة.. إذن هي أبواب الأمل عادت لتجزي من يستحقها.
مرت الأيام الحافلة بالقصص والمغامرات التي غرق فيها صاحبنا، وفي يوم من الأيام. وكما جرت العادة اِستيقظ صاحبنا و توجه مباشرة نحو القارورة، نظر لشغفه الجارف في قراءة ما تحويه الورقة، وما إن فتحها حصل ما لم يكن في الحسبان... على غير العادة لم يتغير فحوى الورقة كما عهده في الثلاثة مائة وخمس وستين قصة السابقة، بل أصبح محتواها فارغا!! استغرب وأحس بأن شيئا ما جرى، جعل القارورة مضربة اليوم.
توجه إلى عمله، وفي اليوم الثاني أعاد الكرة، إلا أن محاولته باءت بالفشل وفي اليوم الذي تلا اليومين السابقين، أعاد الكرة إلا أن دجاجته لم تُبِضْ قصصا أخرى . حينها أدرك بأن دوام الحال من المحال و قارورته أصبحت عاقرًا.
حزن كثيرا، ولكن سرعان ما استفاق من نومه، وبدأ يحاول الكتابة، كيف لا، وهو من نسج خيوط القصص التي حلم بها، لأن أمر القارورة كان مجرد وهم لا أساس له من الصحة، بل هو زاد المطالعة الذي غنمه بالماضي وأكسبه ملكوت الكتابة.
بمرور الوقت أصبح يكتب ما يشاء وكيفما يشاء، دون الالتفات لأصول الكتابة بل تنامت موهبته وقدراته الإبداعية، أصبح يزاحم كل أساليب الإبداع، بكلماته الخصبة المثيرة ، التي تخلو من العثرات أو الزلاّت، ذاع صيت صاحبنا وأصبح مشهودا له بالتمكن إذن ليس للحياة قيمة، إلا إذا وجدنا فيها شيئا نناضل لأجله أيا كان هذا الشيء ... هذه هي قصة صاحبنا الذي وجد في المطالعة خيرا.
وكما يقال : "خير جليس في الأنام كتاب" و "(بيتٌ يخلو من كتاب هو بيت بلا روح".
شكرا
بقلم بديـار خليفة
-
Beddiar khelifaمخبري بشركة لصناعة الادوية و صحفي و مؤلف قصص و ناشط في المجتمع المدني ،في ميدان التطوع و القاء المحاضرات