وما أن تمتلئ صفحة السماء بألوان الغروب، وتلك النسمة التي تحمل عبقها الخاص منذرة بمجيء المساء، ندرك أن وقت متعتنا قد جاء، فأذهب سريعا لأجهز البلكونة وأضع فيها كرسي أو إثنين لضيق مساحتها، كان أبي يجلس على كرسي وأنا وأخي الصغير نتنافس على الكرسي الآخر، أما أمي وبقية إخوتي يجلسون مفترشين الأرض حولنا، بعد أن تعد أمي لنا الشاي، وفي أيام الحر الشديد كان أبي يرسلني أنا وأخي لشراء المثلجات، ثم يأتي وقت جدال كل يوم المحبب.. هل هذه النجمة اللامعة هي كوكب الزهرة أم لا؟ أبي يقول أنها تدعى نجمة المساء، وفي أحايين كثيرة كان يقول أنها الزهرة، وعلى كل هو كان يستطيع التفريق بينهما، أما نحن كان يختلط علينا أمرهما حتى الآن. فها هي تلمع أمامي في جمال وغواية، كأنها تطلق شرار حميمي يعيدك لأكثر اللحظات بهجة وسكينة.
أتركها تحملني على بساطها العجائبي إلى براح بيتنا في قريتي الأم، ومع أن موقع بيتنا خانق قليلاً على عكس منازل الغيطان الخلابة؛ إلا أن لسطحه براح غير متوقع، وهذه تيمة منازل القرية التي تكون طريقة بناؤها عشوائية في أغلبها، أي لا يهتمون بتقسيم الغرف بمساحاتها المضبوطة عدا السطح والمندرة كما نطلق عليها في الصعيد. وهي كغرفة الضيوف لكنها خاصة بالرجال فقط، ويجب أن يكون لها باب خاص بها من الخارج، وما يجعل للمندرة حق التوسع هو "الدكك" لأنها ضخمة الحجم، والدكك مفرد دكة أي الكنبة الصعيدي. ونحن نمتلك واحدة في صالة منزلنا، لكنها قديمة للغاية وأضخم من التي في الصورة، أبي يقول أنها تعتبر أثرية لأن مر عليها مئة عام!
أما السطح فهو الجزء الخاص بالنساء، فعليه تُبنى الفرن وأحياناً "الكانون" - وفي بعض المنازل يقيمون الفرن والكانون في زاوية من حوش المنزل - لكن الغالبية يفضلون السطح لوسعه وتهويته خاصة للعائلات التي تربي المواشي في الحوش أو في غرفة مجاورة له، فالأمر لم يكن مستحبا. حدثتني أمي أنها حاولت كثيراً بناء الفرن في الحوش نظرا لبرودة المكان، لكن كان كلما يتم بناءها تُهدم من تلقاء نفسها ربما بسبب الرطوبة، حتى قررت بناءها على السطح، وهي مازالت قائمة حتى وقتنا هذا.
والسطح في أغلب جوانبه يكون عشوائيا، وأحياناً مقسما لغرف لتربية الدواجن، كان لدينا غرفة لكن مدخلها كان ضيقا للغاية فكنت أدخلها بصعوبة لجمع البيض بسبب تكدس أكوام الحطب والقش فوقها، أما الفرن فلها قدسيتها حيث تُبنى داخل غرفة واسعة مسقوفة بالقش ليسهل تسريب الدخان وكذلك حماية النساء من لهب شمس الصيف. وبالنسبة للكانون فلم أشهد وجوده ولا حتى أثرا منه في منزلنا غير الذي في بيت جدي، وكان بديل الكانون آنذاك البابور وهو يعمل بالغاز وهذا كان أرحم على أمي من عناء دخان الكانون. وبعض العائلات كانوا يستخدمون الاثنين معا لينجزوا في تجهيز الطعام.
ورغم عشوائية السطح التي ذكرتها إلا أن النساء يحرصن على الاحتفاظ بمساحة كبيرة منه، وتكون بمثابة المندرة الخاصة بهن. قبيل الغروب تقوم النساء بكنسها ورشها بالماء ثم فرشها بالحصير أو الصوف. وتبدأ متعتهن التي لا يسأمن منها أبداً، وكيف يسأمن وهي التي يحيطها الفضاء من كل جانب، فالنجمة الصغيرة تضاهي الكبيرة جمالاً وفتنة، والشهب وهي تتولد من جوف السماء فتحيلها إلى تنور متأجج. والطائرات التي من كثرة عددها وتداخل مساراتها يخيل إليك أنها ستسقط فوقك، حتى الكواكب تجدها سابحة في ملكوت السماء كما شاء لها. كم رصد أبي زحل والمشترى والمريخ، وبالمنظار كنا نرى أجنحة الطائرة وقت الشروق.
لكن حقيقة النساء هناك لا يأبهن كثيراً بهذا العالم الفضائي الذي يحوم فوقهن، فهن مضغوطات طوال اليوم وكل ما يهتممن له هو تبادل الحكايا والنكات والضحك والهواء البارد النقي يلفح أجسادهن، فيعيد إليه نضرته ونشاطه، وتعاد ذات القصة كل يوم. وكم كنت أستغرب النشاط الذي يقمن عليه نساء القرى، حيث يستيقظن في السادسة صباحاً ليعدن الخبز والفطير، ثم يذهبن لحلب المواشي. وأمور كثيرة أخرى يقمن بها في وقت قياسي، ستشعر أنهن كخلية نحل يدركن تماما ما عليهن من أعمال، ويفعلنه بحب دون تململ أو تذمر. وهذا ينطبق على الرجال أيضاً، تجدهم يقومون من الفجرية لجمع البرسيم للمواشي أو لرعاية الأرض.. إلخ.
أن حياة القرية تذكرني دائماً بالساقية التي لا تكف عن الدوران، فإن كفت فاعرف أن هناك خطب ما بها، أو متوقفة لبرهة فقط لالتقاط أنفاسها ثم لا تنفك أن تعود. وها أنا أعود إلى غرفتي بعد ترحال جميل ملأني حنينا وضيقا، فالنجمة اللامعة قد اختفت، يبدو أنها كانت الزهرة وليست نجمة المساء! لكن شعور بالحزن راح يسري بداخلي.. حيث ذكرني باندثار تلك الأيام، كأن هناك شهابا قد داسها فحولها إلى دخان. وأنا لا أمانع، فهذه نهاية حتمية. يكفي أن الذكريات راسخة رسوخ بيوتنا العتيقة، عصية على محو شخابيط الطفولة من على جدران منازلنا ومنازل أقاربنا الذين هجرناهم، يكفي هذي الروح الساكنة في السماء.. تلك التي أودعتها سرا ذات ليلة منيرة، وقلت لها همسا "لا تنسني" وقد أوفت؛ فكلما اشتقت تجيئني من طرفة عين، وتطير بي نحو براحي المفضل، إلى هدأة الليل الحالك، ذلك الذي يشع سكينة وغبطة كأنهما قطعة قطن معطرة تمسح برفق على فؤادي المضطرب.
وهذه هي آخر صورة التقطتها لبلدي من منزل خالي المحاط بالحقول. لطالما تمنيت أن يكون لي بيتاً هناك ولو في أجواء مشابهة، ورغم أن معالم القرى كثير من يحاول طمسها بحجة بدائية منازلها وحاراتها الضيقة إلا أنها تبدو كالنخيل في تشبثه بأرضه وعالمه. ومن مدينتي الهادئة التي تذكرني بكِ على الدوام أبلغكِ اشتياقي وسلامي حتى نلتقي..
-
Walaa Atallahكاتبة ومدونة مصرية.