يقولون أن الحياة مدرسة وأن كل تجربة مؤلمة تعيشها درس لن تنساه طوال حياتك. يقولون أيضاً أن الوقت كفيل بالنسيان، وأن الألم يبدأ كبيراً ثم يصغر عكس كل الأشياء، لكن هناك آلام في هذه الحياة مهما تبددت في زحمة الأيام يبقى أثرها في القلب قوياً لا يتغير.
تمر أيام وأشهر وأنا في بيت "فؤاد" معتزلاً الحياة، لم أعد أبحث في مذكراته، ولم أعد استمع إليه، كنت قد استسلمت لفكرة أن السر الذي كان بينه وبين "سعاد" اندفن معهما. لأنني أحببته كما أحببتها، والمحب لا يرى أخطاء محبوبه .. وإن رآها تجاوز عنها.
قد يكون "طارق" محقاً بخيانته، لكن "فؤاد" لا يخون. إن الرجلين يمثلان لي أشخاصاً حياتي لم تكتمل دونهما، ربما قد تبدو بعض أخلاقيات "طارق" غير كريمة لكنه صديق شهم وكريم. إنها الحياة .. لا تجد أحداً كاملاً فيها.
كان أصدقائي يأتون لزيارتي متناوبين على ذلك، لكنني لم أشعرهم يوماً بأنني أشعر بالشفقة على نفسي من شفقتهم علي، لأنني لم أكن لأقوى على مواجهة كل ذلك الألم وحدي، ألم السقوط والاستسلام. كانوا يحدثونني عن الخارج كأنني كنت سجيناً محكوم عليه بأن يستمع إلى ما يدور خلف جدران زنزانته وليس له الحرية في الخروج منها. لكنهم بعد أن يأسوا من محاولات إخراجي لم يعودوا يحاولون ذلك بل كانوا يأتون بالخارج إلي.
كان ذلك الصباح غريباً، بدأ برد الشتاء يدخل من جديد، لم يكن هناك مطر ولا رياح، كان الجو هادئاً جداً، وجدت "طارق" على باب منزلي، دخل وهو يحمل معه قطعتين من الحلوى التي كنت أحبها، جلسنا نحتسي القهوة ونحن نشاهد نشرة الأخبار. يقول بأنه رأى معطفاً جميلاً جداً عند أحد المحلات الماركة، لكن زوجته ستتسبب له بمشكلة إن اشتراه لأنه يرفض أن يشتري لها المعطف من ماركة ما لأنه يعتقد أن الماركات تمثل عبارة "رزق الهبل ع المجانين". كنت استمع إليه وأنا سعيد بروايته، أتجرع قهوتي وأنا أتلمس حرارتها من حافة الفنجان. يعود "طارق" لحديثه عن مشاكله مع زوجته التي لا تنتهي ..
"إننا نعيش مع بعضنا منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً، لكننا لم نتفاهم يوماً، إنها لا تشبهني بشيء، هناك فرق بيننا في طريقة التفكير وأسلوب الحياة، ومع ذلك فإنها ما تزال مصرة على أنه يجب علينا أن نحل الخلافات .. إنها لا تدرك أن خلافي معها أننا نختلف على لا شيء .. ".
ربما عليك أن تفكر جدياً بمصير هذه العلاقة، وإلا فإن خيانتك المتكررة وأسلوب حياتك لن يساعدك حتى الأبد.
يجيبني وهو يضع قطعة الحلوى في فمه :" لقد فات الأوان يا صديقي، لدينا ثلاثة أولاد والحال هي الحال منذ ثلاثة عشر عاماً، ولن يتغير شيء حتى لو مرت عشرات السنين، والانفصال فكرة لن ترد أبداً .. أنت تعلم أنني رغم كل شيء لا استطيع أن أتخيل حياتي دونها".
ابتسمت له عندما لم أجد إجابة تنصف الموقف، لقد كنت أشعر بأنه يريد أن يقول لي شيء وكان متردداً، فأضفت له المزيد من القهوة في فنجانه لأطيل فترة وجوده، كان "طارق" محامياً فطناً جداً فانتبه فوراً إلى مرادف حركتي، فما كان منه إلا أن أخرج بطاقة من جيبه وأعطاني إياها. كانت البطاقة لطبيب نفسي.. شعرت بالانزعاج الشديد لدى رؤيتها رميتها على الطاولة وقلت له غاضباً :" إذا كنت تعتقد بأنك تساعدني بهذه الطريقة فأنت مخطئ جداً".
أجابني بكل هدوء وهو يرتشف قهوته :" إن هذه الطبيب استقال من عمله منذ أعوام مضت، لكن إن أردت حل لغز فؤاد وسعاد فعليك أن تسأله لأنه الوحيد الذي كان يعرف طبيعة العلاقة بينهما".
أعدت حمل البطاقة ورحت أدقق أكثر بالاسم والعنوان علهما يذكرانني بشيء، في تلك الأثناء رفعت رأسي ووجدت أن "طارق" قد غادر تاركاً إياي أجابه مصير هذه البطاقة وحيداً.
- يتبع -