الأزمات , ليست بالضرورة تكون أزمات مادية , إفلاس أو فقر مؤقت , مرض , علاجه مُتاح أو حتى نادر الوجود , الأزمات الحقيقية تكمن بداخلنا , بداخل ما يعتري نفوسنا وما يفقدها رونقها وتوازنها السليم , ما يعترينا فيُضعفنا ويكون ضعفنا هذا أكثر من الضعف الذي نلقاه عند المرض وعند الإفلاس المادي ! , بل والأصعب أنه لا علاج له إلا بإيدينا نحن , فلا مضاد حيوي قادر على تفتيته ولفظه خارج أجسادنا البالية , ولا طبيب قادر على تشخيص حالته ودرجته , السر كله يكمن بك أنت وما تشعر به هو التشخيص السليم الواضح له ..
أزمة اليوم راودت الكثير , بل الكل ! , فهي مرحلة لن تجرؤ على الهرب منها , مرحلة تضع بها أقدامك وتتساءل .. ما الجدوى من تلك الخطوة ؟! , فقد كنت أحيا حياة هادئة ! , هل يتوجب علي أن أخوض تلك المرحلة الآن ؟! , قديماً كان الأجداد يتناقلون مقولة لم أجد أفصح وأصدق منها لتصف ما يحدث في تلك المرحلة بشكل خاص .. " اللي يعيش ياما يشوف " , نعم , ما أصدقها ! , فتلك الحياة بكل تقلباتها وكل مراحلها أنت لم ترَ منها شيئاً بعد ! , بكل ما تملكه من فصاحه عقل وقوة شخصية وصلابة فكر أنت لم تراها على هيئتها الأصلية حتى الآن , ولم تتمكن من التعرف على من يحياها بعد , صادفت بطريقك فيها الطيب , الشرير , الخلوق , اليائس , المُفعم بالأمل , ولكنك لم تكتشف بعد شيئاً ! , فبعد أن تُصادف احدهم وتشعر أنه توأم روحك , كأنه قد سُلخ من كيانك وانفصل عنك ليغدو هو في طريقه ويحمل إسماً مُختلفاً عن إسمك وترتسم على وجهه ملامح غير ملامحك ولكنه منك وإليك , تراه فتحسبه البداية لإكتشافك لذاتك , تشعر معه بوجودك وبقيمته , ودونه تجد الزمن يفقد زمنه والحياة تفتقر لحياتها ! , تأتمنه على كل الأسرار ما كبر منها وما صغر , مهما كانت مصائبك تجده الأمين , الصادق , الوفي الأكثر إخلاصاً , تتقاسم معه شربة فكرك ومعنوياتك , تُهرول إليه عندما تجد الحياة تسن سيوفها من أجل تحويلك لمجرد أشلاء بشرية على أرضها , تجمع شتات أمورك وقوتك وتحتمي به , وأنت على يقين أنه لن يخذلك أو يُلقيك جانباً , فأنت أيضاً منه وإليه " كما كان يُخيل لك يا مسكين " ! , ألم أقل لك أنك برغم فصاحتك لن تصل لــ 1% من فهم تلك الحياة بمن يقطن بها من بشر مُختلفي الطباع والأفكار والتوجهات ! , ولكن ماذا حدث حتى يجعلني أتفوه بتلك الكلمات التي قذفت في قلبك التعاسة والإنقباض ؟! ..
يا عزيزي .. إنها الأزمة الأصعب على الإطلاق ..
في لحظة الهرب إلى مأواه الذي صنعه لك خصيصاً , تجد أن هذا المأوى فارغاً ! , كالكهف الفارغ المُخيف في صحراء جرداء لا زرع بها ولا ماء ! , طيلة رحلتك في الوصول إليه تحسبه ينتظرك ليُلملم ما تناثر منك من قوة وإرادة وصبر , ولكنك ولأول مرة في تاريخ ذكائك أخفقت , تعالى مقدار غبائك وجلس على عرش السذاجة ! , لم يكن في مُخيلتك أنك ستصل لتلك المرحلة العجيبة التي لا تقوى فيها على التفريق بين من سيقبض على يدك وينتشلك من ضياعك ومن يتركها بل ويكن هو أول البشر في إيقاعك في بحور لا نجاة منها ! , وأنت يا مسكين برغم كل هذا ترفض التصديق , يستحوذ عليك الإنكار , كيف له أن يتركني ؟! , كيف له أن يبتعد دون أن يلقي علي خُطبة الوداع حتى ؟! , دون مُبررات ؟ , وإن كانت لا منطقية , أصبحت كالغريق الذي يُفتش عن أي " قشة " ليطفو بها من جديد على السطح , ولكن ما بالك بأنه هو من قذفك من البداية ؟! , هل ستظل كثيراً تُراهن أنه يستحيل أن يفعل هذا بك وأنها مجرد هراءات لا قيمة لها ؟! , ستظل على تلك النظرة وبهذا المبدأ كثيراً وكثيراً , ولن تجده يعود ليُخبرك أن طريق الحياة كان يُعرقل خطواته في الوصول إليك ! , بل هو من يختلق العقبات ليذهب بعيداً عنك ! ..
فماذا تتوقع أن تصبحه الآن ؟! ..
النتيجة المنطقية لكل ما سبق أنك ستتبدل لأتعس المخلوقات , ستجد أن شمسك بدأت في الإنطفاء وتوهج أشعتها لن تتلألأ مرة أخرى , زهور الربيع بدأت تتساقط في إعلان للكون أن الخريف قد حل , وأن كرنفالات الطبيعة أخذت في الخفوت الأبدي ! , أصوات البلابل أصبحت أقبح من صوت مُنبهك , ورويتك للحياة في إضمحلال نحو القاع البائس , وكل هذا وأكثر لمجرد أزمة أخذت تنهش في لحم إتزانك النفسي , أزمة الثقة في أي بشري مهما كان ..
ثم ماذا , ما العمل ؟ ..
ما الحل ؟ , هل ستستمر في نظرتك تلك ؟ , ستظل مُتقبلاً لما أصبحت عليه طويلاً ؟ , ما الجدوى من إنغلاقك ؟ , ما الجدوى من إنعزالك عن البشرية بأكملها لمجرد بشري قد سلب منك مقدار ليس بالقليل من الثقة ؟ , نعم لقد سلبه ولكنه قد لقنك درساً كبيراً لن تغفل عنه , يا عزيزي , سطحية العلاقات ليست بالأمر المُستعصي , ليست بالشئ المُنفر الذي يجعل البشر يبتعدون عنك وينشرون عنك الإشاعات أنك غير سوي , بل هي الراحة بعينها , لمن وجد في حياته ثغرات نفسية بواسطة قوة بشرية , فبعد أن كنت تتسلل الليل من أجل إقتناص النجوم لتُضئ بها عتمة أحدهم , أصبحت الآن تنظر إليها في لامبالاة قائلاً : حسناً , هي ستذهب إليه من تلقاء نفسها فتلك طبيعة الكون والسماء لا تقتصر علي أنا فقط .. بسيطة ولكنها ذات نتائج مذهلة ..
سطحية العلاقات .. بداية لإصلاح ما أفسده البشر فيك ..
لا تعتبرها مهانة لهم , لا تعتبرها إنتقاص منهم , فقط لضمان سلامة توازن العلاقات عليك أن تُدرك مفهوم التوازن الصحيح , التوازن هو ألا تزيد عن الحد المطلوب فتُهلك , وألا تقل عنه فتمل , ألا تُزيد من سقاية زهرتك الربيعية فتجد أن الماء سُيغرقها , وألا تقطع عنها مصدر الحياة فتذبل وتموت , كن مُتوازناً فيما تفعله وفيما تُقدمه , فلولا التوازن في حياتنا لما كانت الحياة تستمر , هل وجدت فصل الشتاء يدوم مُتغاضياً عن باقي الفصول ؟ , أم أنه يُبدل مع فصول السنة كل فترة لتستمر الحياة ؟, فقد حافظ على إتزان الحياة والبشرية بأكملها , كن أنت كذلك في علاقاتك , لا تقبض على قبضة شريكك قبضة تُنزفه , ولا تتركها في مهب الريح , اعتدل حتى لا تُصاب من جديد بتلك الأزمة , أزمة الثقة العنيفة التي إن زُحزحت عن موضعها فلن تجد ما يُغنيك عنها ..