"هأنذا اقف امامكم, وليساعدني الرب"

بهذه الكلمات وقف الراهب المنفي من الكنيسة مارتن لوثر, الاستاذ الجامعي البالغ سبعة وثلاثين عاما, بتاريخ 17 ابريل عام 1521, امام اعيان كبار رجال الامبراطورية الرومانية المقدسة للمثول امام الامبراطور من اجل ان يقاضيه على الكتب التي نشرها, وما اسموها ايضا في مجلسهم الخاص بالهرطقة التي تفوه بها مارتن لوثر, فالقى خطابا حادا ينتقد فيه بعض اعمال كبار الدين وما يحمل من شقاء يقع على كاهل عامة الشعب ولاستغلالهم الدين كغطاء, واخبرهم انه لن يسكت عن الجور والضلم لان الكثير من افعالهم تخالف الكتب السماوية, وكان متيقنا ومتنبها لما يمليه عليه ضميره وبكل بساطة يقول "ما لم اقتنع بأدلة من نصوص الكتب المقدسة او حجة لا جدال فيها, فانا مصمم على النصوص التي استشهدت بها وبما يمليه علي ضميري الذي هو اسير لكلمة الله".

هو لم يسع ليكون رجلا متمردا خارج عن الدين او متحديا لبابا الكنيسة الرومانية المقدسة, بل شكك في بعض العقائد والمتعقدات الدينية التي تنافي العقل وتشق على الناس, فكان ينادي بالاصلاح ولم ينادى بدين جديد, وقف بوجه المفاهيم الخاطئة التي عمقت وجودها في العصور المضلمة, فأسس حركة الاصلاح التي اصبح قائدها في ما بعد, واحدث التغيير الذي نال استحسان المثقفين ورجال الدين المعتدلين وايضا الكثير من عامة الشعب, فانتشرت في ارجاء اوروبا واصبح من اشهر كتاب المانيا وانجح قادتها, فأسس اقوى حركة اصلاح ديني انتشرت على مستوى العالم وضلت باقية حتى القرن الحادي والعشرين.

تسليطي للضوء على مسألة بسيطة, وهي احيانا يجب ان يكون رجال الدين هم من يحلمون على عاتقهم اصلاح المجتمع واخراجه من ظلمات العصور التي حلت على شعبٍ ما, فهم يعلمون الدين ولاشك لديهم المعرفة ببعض الامور الاجتماعية والالمام بحالة الشعب من فقر وجهل, فلا يجب ان نراهم يتراكضون للسلطة, بل ان يتراكضوا بين اوساط الشعب ويتركوا الرفاهية التي لا تناسب اي رجل دين منذ وجود المجتمعات البشرية ونزول الانبياء, فالفقر والقناعة ورفض الدنيا كانت شعارهم, والتواضع ردائهم.

اما يكفي عبرة من التاريخ الذي سطر لنا حينما حكم رجال الدين اوروبا فسحبوها بالسلاسل الى مستنقعات الظلمة والحروب الطاحنة, وحين نهض رجال الدين المستقيمون يساندهم المثقفون من اوساط عامة الشعب, استطاعوا احداث تغيير جذري ومنها كاقرب مثال الثورة الفرنسية حينما ثار الشعب على النبلاء الذين اذاقوا الشعب مرارة سنوات من البؤس والفاقة, فكانت المقصلة هي الحكم العادل لرقاب الطبقة المتسلطة نزولا من لويس ملك فرنسا الى اخر متعجرف فيها, وبعد ذلك نهضت اوروبا التي تجاورنا ولم تتوقف حتى وصلت الى ما وصلت اليه من تطور ورخاء وجمال عمران وبلوغ اسمى معاني الانسانية في مجالات الطب والثقافة.

واما نحن فبعد ان كنا ننظر اليهم من الجنة, وفي اعلى مستويات العلم كنا, سمحنا لانفسنا ان نجرب لعنتهم منذ اول خطوة في سلم التطور البشري, وبسبب الفئة الفاشلة التي تحكمنا عدنا بأسرع من الضوء الى قلب العصور المظلمة, وانشغلنا بما ارسله الغرب الينا من عالمهم السفلي ليسكن بيننا, ففي كل مجتمع متكامل توجد المستنقعات, ونحن في خضم انشغالنا بما يسمى ربيع قادم, اجتاحنا الظلام القادم وعدنا الى اول درجة في سلم البشرية.

يا ترى هل سنخطو كل خطوة نحو الارتقاء باذلين بذلك الالاف الارواح وجهد عناء, ام سننظر ونرى كيف عالج الغرب مشكلاتهم ونقفز لنكون بجانبهم وربما نفوقهم, فنحن كنا في ما سبق في مكاننا المنشود, لكن لاننا كنا في سبات, وصل بنا الحال ان يحدد بعض الجشعين لمال او سمعة او رداء دين, ان يحددوا مصير اجيال كاملة حاكمين عليها بالجهل والتخلف والضياع.

وكان منطلقي من رجل مسيحي لنعلم ان الاصلاح ينبع من الذات مهما كان دينك او انتمائك او عقيدتك, حينما ترى الظلم فالتقف بوجه وسيقف معك الباقون, ولا تقف بالسلاح بل بالعلم والقلم حتى لو فنيت وانت تحاول, فمصير مارتن لوثر كان معروفا وهو المشنقة كالاربعة اللذين سبقوه, الا انه لم يكترث بمن مات قبله واكمل يحاول ايصال رسالته, حتى وصلت وغيرت واثرت في اجيال فوصل الى ما وصل اليه الحال.

المرجع:

كتاب "مارتن لوثر, بقلم سكوت اتش هندريكس"