أمْكنَ لرجالِ الشُّرطة ومَنْ أُنيطَ بهم أمرُ الكشفِ عن وقائع جريمة قَتْلِ الصَّحَفيّ جمال خاشقجي وحيْثيّاتها داخلَ قُنصليَّةِ المملكةِ العربيَّةِ السَّعوديَّة في إسطنبول أنْ يرْسُموا صورةً تكاد تكون كاملةً لما حدثَ للمغدورِ به ما بين السَّاعتين الواحدة والرَّابعة من بعد ظهر يوم الثُّلاثاء من تشرين الأول (أوكتوبر) من سنة ثمانية عشرة وألفين للميلاد

فعلى ذِمَّةِ الرُّواةِ أنَّ المغدورَ به وهو على خلافٍ شديدٍ مع المُسْتبدِّين بزمامِ الأمورِ في بلده كان قد تَلقّى أمانًا فيه أنَّه لنْ يُمَسَّ بأذى إذا هو حَضَرَ إلى قُنصليَّة بلده لاستخراج وثيقةٍ إداريَّةٍ تَخُصُّه فَعَوَّلَ صاحبُنا على هذا الأمان وشَخَصَ بِناءً على موعدٍ ضُرِبَ له إلى القُنصليَّة المشؤومة لهذا الغرض ولكنَّه وكأنَّه قد تَوَجَّسَ خِيفَةً من هذا الموعد اصطَحَبَ خطيبته لعلَّ في حُضورها ما قد يرَدْعَ ُمن تُسَوِّلُ له نفسه به شرًا وكان قد عَهِدَ إليها بهاتفه الجَوَّال زيادةً في الحِيطَةِ وصَدَقَ حَدْسُه فقد حِيلَ بين خطيبته والدُّخولِ بِحُجَّةِ أنَّه لا يلجُ القُنصليَّةَ إلّا مَنْ له بالأمر صِلَةٌ مباشرة وهكذا مشى المغدور به إلى حتفه بمُفْرَدِه فما أنْ وَطأت قدماه عَتَبَةَ قنصليَّة بلده حتى وقع المَحْذورُ وضاعتْ آثارُ الصَّحفيِّ العاثِر وقد أجمعتْ المصادرُ أنَّه قد قُتِلَ وذَكَرَ مَنْ يُعْتَدُّ بروايته أنَّ زَبانِيَة السُّلطان قد أذاقوه الموتَ الزُّؤام وقتلوه شرَّ قِتْلَة فخَنَقُوه ثم قَطَّعُوه إرَبًا إرَبا ورُبَّما بعد ذلك حَرَّقُوا لحْمَه وعظْمَه بالأحماض والقلويات !!! ... ولم يُعْثَرْ على جثَّته

أثارتْ هذه الواقعةُ المُسْتَجِدَّة في خاطري حِكايةً كنتُ قد قرأتُها منذُ زمن بعيد فَرُحْتُ أبحثُ في بطون الكتبِ عمَّا كان بعضُه قد عَلِقَ في الذاكرة فَعَثَرْتُ على ضالَّتي في "كتاب الوزراء والكتاب" للجهشياري (توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاث مئة للهجرة)

"قال عيسى بن عليّ [وهو عمُّ الخليفة العبَّاسيّ المنصور] يومًا لابن المقفَّع صِرْ إلى سُفيان [بن معاوية بن يزيد بن المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة وكان المنصور قد ولَّاه البصرةَ بعد أن عَزَلَ عنها عمَّه سُليمان بن عليّ أخا عيسى بن عليّ المذكور في الرِّواية وكان سُفيان هذا والخليفة العبَّاسيّ يَضْطَغِنان على ابن المقفَّع أشياءَ كثيرةً/ أنظرْ "كتاب المقالات" للنوبختي] فَقُلْ له كذا وكذا فقال له ابن المقفَّع وَجِّهْ معي ابراهيم بن جَبَلة بن مخْرَمة الكندي فإنّي لا آمن سُفيان فقالَ كلَّا انطَلِقْ إليه ولا تَخَفْ فإنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَعْرِضَ لك وهو يعلمُ مكانَك مِنّي فقال ابن المقفَّع لإبراهيم بن جبلة انطلقْ بِنا إلى سُفيان نُبَلِّغُه رسالةَ الأمير ونُسَلِّمَ عليه فأنا لَمْ آته منذُ قَدِمْنَا وأخافُُ أنْ يَظُنَّ بيَّ مَوْجِدَة [= ضَغِينَة] وعَدَاوَة فَمَضَيا [ورِفْقَتُهما غلام ابن المقفَّع] فجلسوا على باب الدِّيوان وجاءَ عمر بن جميل فجلسَ إليهما فخرجَ غلامُ سُفيان فنظرَ إليهم ثُمَّ رجِعَ ثمَّ عادَ فَسَارَ إلى عمر بن جميل وقال له يقولُ لك الأميرُ ادخلْ الدِّيوان فاجلسْ فيه فإذا انتصفَ النَّهارُ فَمُرَّ بي فقامَ فدخلَ الدِّيوانَ وجاءَ الآذنُ فأذِنَ لإبراهيم بن جبلة  فدخلَ ثم خرجَ [الآذِنُ] فأذِنَ لابن المقفَّع فلمَّا دخلَ عُدِلَ به إلى مَقْصُورَةٍ أخرى فيها شَبْرويه الملاديسيّ وعتَّاب المُحَمَّديّ فأخذاه فشدَّاه كِتافا ثم قال إبراهيم [وهو لا يدري ما جرى في المقصورة الأخرى] لسُفيان إئذَنْ لابن المقفَّع فقال سُفيان للآذِنِ إئذَنْ له فخرجَ الآذنُ ثم رجِعَ فقال قد انصَرَف فقال سُفيان لإبراهيم هو أَعْظَمُ كِبَرًا مِنْ أنْ يُقِيمَ وقد أذِنْتُ لك قَبْلَه ولا شكَّ أنَّه قد غَضِبَ فانصرف ثمَّ قام سُفيان وقال لإبراهيم لا تَبْرَحْ ودَخَلَ المقصورة التي فيها ابن المقفَّع فقال له لما رآه ابن المقفَّع قد وَقَعْتَ والله فقال[ابن المقفَّع] أنشُدُك الله ثم أمرَ [سُفيان] بتَنُّورٍ فَسُجِّرَ ثم أمرَهُما فقَطَعَا منه عضوًا ثمَّ ألْقَيَاه في التَّنور وهو يراه فلم يَزَلْ يُقَطِّعُه عضوًا عضوا ويُلقيه في التَّنور إلى أن قَطَّعَه أعطياء ثم أَحْرَقَه وهو يقول والله يابن الزِّنْديقَة لأحْرُقَنَّك بنار الدُّنيا قبل نارِ الآخرة

فلما فَرَغَ منه رجِع إلى إبراهيم فحدَّثَه ساعةً ثم خرجَ إبراهيم فقال له غلام ابن المقفَّع ما فَعَلَ مولاي فقال ما رَأَيْتَهُ قال بلى قد دخلَ بعدك فقال ما رَأَيْتُهُ ورامَ [إبراهيم] الرُّجوعَ إلى سُفيان فَحُجِبَ [=مُنِعَ] وانصرف وانصرف معه غلام ابن المقفَّع وهو يصيح ويبكي ويقول قتلَ سُفيان مولاي فدخل إبراهيم على عيسى بن عليّ ومعه غلام ابن المقفَّع يبكي فقال عيسى لإبراهيم ما هذا فخبَّرَه الخَبَرَ على جِهَتِه [...]"

مصادِرُ أخرى ( منها ابن خلكان في "وفيات الأعيان") تذكُرُ أن سُفيان ألْقاه في بئر الخُرُوجِ ورَدَمَ عليه بالحجارة أو أنَّه أَدْخَلَه حمّامًا وأغلقَ عليه بابه فاختنق وأيًّا يَكُنِ الأمرُ فإنَّه لَمْ يُرَ وَجْهُ ابن المقفَّع غبَّ ذلك اليوم المشؤوم !!! ... ولم يُعْثَرْ على جثَّته

ولعَمْري ما أشْبَهَ اللَّيلةَ بالبارحة !!! القَتْلُ غِيلَةٌ خَنْقٌ وتقطيعُ جَزورٍ ثمَّ تَحْرِيقٌ ومَحْقُ جُثَّة !!! والشَّاهِدُ بالبابِ ينتظرُ ... وإذْ أفاقَ من غَفْلَتِه كان قد قُضِيَ الأمرُ!!!

ما أشبهَ اللَّيلةَ بالبارحة !!! صِراعٌ بين سلطانٍ فَاجِرٍ مَلَكَ الحجر والبشر وآلة الإجرام ومُصْلِحٍ رفَضَ الجَوْرَ وما حِيلَتُه في ذلك إلا الرَّأيَ والنَّصيحةَ وحَسَنَ الكلام ... والعامَّةُ في حِكْمَتِها ترى أنَّ "العينَ لا تُقاومُ مَخْرزا" !!! 

ما أشبهَ اللَّيلةَ بالبارحة !!! والفاصِلُ بينهما يناهزُ ثلاثة عشر قرنا مَلأها "مسرورٌ وإخوانه"* بالجماجم والأشلاء والدم المُراق !!!

ما أشبهَ اللَّيلة بالبارحة !!! وأَبْدَاُن المُصْلِحين في غياهبِ السُّجون على نارٍ تَلَظَّى والأرواحُ مُعلَّقَةٌ على كلمة تخرجُ (أو لا) من فِيهِ السُّلطان فتُزْهِقُها أو تمنَحُها فُسْحةً من الحياة ورُبَّما فقط إلى حين !!!

ترى ما الذي أمكن للتاريخ أن يُعيدَ نفسَه وأن يكون مكرورا على هذا النَّحْوِ في المجال العربيِّ إلى يومنا هذا !؟

* "مسرور السَّياف وإخوانه" عنوان كتاب لجمال بدوي (القاهرة/دار الشروق/ الطبعة الأولى/1997-1417). "مسرور" السَّياف الشَّهير لدى هرون الرَّشيد وهو مَنْ أَعْدَمَ جعفر  ابن يحيى البرمكي الحياةَ بأمرٍ من الخليفة العبَّاسيّ وتَنْقُلُ بطون الكتب أسماء العديد من أولئك "المسرورين" وضحاياهم والمنكوبين من كتَّاب ووزراء ومُصلحين وأعوان وأعيان على مَرِّ العصور الإسلاميَّة

أنتهى الجزء الأول وللحديث صلة.