البريد ذلك العالم الحبيب ٢
أحب وظيفته جدا و تعلق بها ، و أهدى لها كل إخلاصه … كان يحس و هو يخرج من باب عمارته متوجها إلى مكتب البريد ، كعصفور يخرج إلى مكان يحبه ، كطائر ، رحل عن مكان ولادته ، ثم إليه الآن يعود ! و زادت الساعة التي فيها يخرج إلى الشارع من سعادته ، فكانت الساعة السادسة صباحا من أحب الساعات إلى قلبه ، و كانت المدينة في هذه الساعة أشبه بوليد نائم ، يقاوم النعاس في محاولة لفتح عينيه ! لا يخرج في هذه الساعة إلا من يؤم عمله البعيد نسبيا ، أو الذي يجب عليه أن يتواجد هناك في الفترة الفاصلة بين الساسة و السابعة صباحا ، خاصة في هذا البرد القارس ، و كان الناس في محطة الميترو ، يتجمعون حول بائع القهوة ، و التي تباع في أكواب هكذا في أكشاك الجرائد و السجائر ، و كل يحاول أن يطرد بقايا النعاس الذي يفعل في الأعين ما يفعله طبق شهي في قلب شخص ممنوع عنه يتبع الحمية ، يحاول ما أمكن الإبتعاد عنه ، فيجد عيناه تجذبانه إليه جذبا ! كان مكان عمله في الجهة الجنوبية من المدينة ، و كان الميترو الدقيق في مواعيده ، ينقل الناس تباعا إلى وجهاتهم ، كخلية نحل منتظمة ! الدخول إلى الميترو في هذه الساعة ، متعة في حد ذاته ، يكون الميترو خاليا إلا من العمال ، و كل يقرأ في جريدته أو كتابه ، أو يحشو أذنيه بما يحب مما يسمع !
كان جنوب المدينة يحوي بين أحيائه الكثير من الأشياء الحبيبة إلى قلبه ، و هو ما حبب العمل أكثر إلى قلبه ، كانت مكتبة المدينة الكبيرة ترقد بين أحضانه ، بالإضافة إلى مشفيان كبيران ، تولى هو إيصال البريد إليهما ، مما جعل عمله متجددا كل يوم ، لا مكان للملل فيه …
وصل إلى مكتب البريد تمام الساعة السابعة ، ليجد ديتمر قد تولى إيصال بريده له ، سلة كبيرة من الرسائل ، يجب عليه كما العادة ترتيبها ، خلع عنه معطفه ، و قبعته الصوفية ، و جلس على كرسية ، و أغمض عينيه قليلا كأنما يستريح ، حتى فاجأه هيرتسبيرغ بصوته الجهوري و هو يسأله :
ـ كيف الحال يا بن لادن الصغير …
حافظ على إعلاق عينيه ، مع ابتسامة كسولة ، ثم أجابه :
ـ هيتسبيرغ ! دائما تحاول أن تجبرني على أن ألسعك بكلامي يا كبير البطن ! و ضحك ضحكة من الأعماق ، ثم أردف : بخير بخير ، كما هو الحال كل يوم !
قهقه هيتسبيرغ ، و قال :
ـ ماذا ! ألا يعجبك اسم بن لادن !؟ حسنا ، ما رأيك في أسامة ؟
ـ ها ها ها ، مضحك جدا بالفعل !
ـ هيا يا جيكوب ، هل هو سيء إلى هذا الحد حتى تتهرب من اسمه ؟
ـ بالنسبة لي نعم ، هيا اذهب إلى عملك !
ـ حسن يا علاء الدين الصغير ، كنت فقط أريد أن أعرض عليك بعض الشاي !
فتح يعقوب عينيه فجأة مع ابتسامة ماكرة ثم قال :
ـ أنت لطيف يا هيرتسبيرغ ، طبعا أقبل ، هات كوبا من فضلك "
أطلق هيتسبيرغ ضحكة عالية و هو يقول :
ـ تحرك قليلا إلى المطبخ و ائت به بنفسك أيها الصغير !
ـ نعم نعم ! لا يمكنني أن أتخيلك يا هيتسبيرغ بدون هذه هذه الطباع السادية !
ـ المهم ، لقد حضرت الشاي للجميع ، هل تعلم أنك عزيز على قلبي جدا أيها الإرهابي الصغير ! ؟
ـ أوه ، يا له من شرف ، قال يعقوب متهكما !
ـ فعلا فعلا ! لقد اكتشفت أن المكتب بدونك يعلوه الملل و الكآبة !
ـ جميل منك يا هيتسبيرغ ! و مكافأة لك على قولك هذا في حقي ، تفضل بعض الشوكولا ! و لكن لا تخبر الآخرين !
ـ كن على يقين ! فمي سيكون كالبئر المهجورة !
ـ حسن !
أخرج من حقيبته علبة مليئة بالشوكولا ، ثم ناوله بعضا منها ، و أرجعها إلى مكانها ، ثم قصد المطبخ … ، كان مكتب البريد عبارة عن مكاتب ملتصقة مفتوحة على بعضها ، مليئة بالرفوف ، و كان يشاركه العمل ١٠ زملاء له أخر ، و كان مكان العمل المخصص لكل فرد ، عبارة عن رفوف ، بعضها فوق بعض ، تساعد على ترتيب الرسائل ، و كان كل واحد منهم يزين رفوفه ، بماشاء من زينة ، فبعضهم كان يزينها برسو أولاده الصغار و صورهم ، و بعضهم مثل ماورو ، يلصق صور أبطال السينما ، و ألصق هو بعضا مما يكتب ، و صورا لمدينته ، و صورا لمكة و المدينة ، و ألصق في مكان بارز جملة كتبها بخط يديه كبير : ممنوع الإقتراب و المعني بالأمر يعلم نفسه ! و كان المعني بالأمر هنا هو هيتسبيرغ ، الذي يدمن صنع المقالب في زملائه ، و إنه ليذكر أنه و في يوم خبأ له بين الرفوف مجسما ، عنكبوتا عملاقة ، من يراه يحسبه حقيقيا بالفعل ، فكانت ردة فعله اللاإرادية مضحكة للغاية ، ما جعل المكتب كله يضج بالضحك ! و كان هيتسبيرغ ، في الرابعة و الأربعين من عمره ، شخص لطيف فعلا لولا مقالبه التي لا تنتهي ، خدوم ، و مستعد للمساعدة في كل الأوقات !
لم تستغرق الألفة بين الزملاء و بينه كثير وقت ، أصبحوا جميعا كعائلة صغيرة ، في يومين أو ثلاثة بعد أن التحق بهم ، و كان يدخل إلى المكتب كأنه داخل إلى بيته ، يرفه الكلفة بينه و بينهم إلى أقصى حد ، يضحكون ، يتباسمون في احترام ، و يتشاركون الفرح و الحزن في جو جميل ، بل و يرسل بعضهم رسائل إلى المكتب في كل مرة يذهبون إلى رحلة في إجازاتهم سواء في ألمانيا أو خارجها ، و إنه ليتذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه إلى المكتب و جلس أمام رفوفه ، لتفاجأ برسالة من هيتسبيرغ الذي كان في إجازة في جزيرة مايوركا الإسبانية ، و عليها صورته و هو يخفي وجهه بمنديل كما يفعل الإرهابيون ، و هو يلوح بيده و يكتب :
إلى الإرهابي الصغير … اشتقت لك كثيرا ، الجو هنا مشمس كما هو الأمر في بلدك ، أفكر فيكم كثيرا ، سلامي إلى كل الزملاء !
كان هذا هو الجو العام الذي جعله يحب هذه الوظيفة حد التشبث …
قصد المطبخ ، و كان الزملاء يلتحقون بالمطبخ بتوالي الدقائق ، حتى اقترب المكتب على الإمتلاء ، فأصبح يضج بالأصوات و الضحك ، و التحدث في الأمور المستجدة ، ارتشف الشاي بتلذذ ، و هو منهمك في إعداد رسائله ، ثم سادت دقيقة من صمت ، لينطلق صوت هيتسبيرغ قائلا :
ـ في الحقيقة ، أيها الإرهابي الصغير ، لم أستطع أن أكتم السر ! و الآن أيها الزملاء يجب أن تعلموا أن الإرهابي الصغير يخفي في حقيبته صندوقا مليئا بالشوكولا !
ـ هيتسبيرغ ! أيها الشقي !
تعالت الأصوات مطالبة إياه بالشوكولا و هم يزمجرون في شغب ضحوك !
قال بيتر بعتاب ماكر :
ـ أيها الشقي ، تخفي عنا الشوكولا ! هيا اعطنا بعضا منها هيا
ـ حسنا ، تفضلوا ، و لكن اتركوا شيئا لماورو ! لا أستطيع أن أتخيل نفسي أمام نظرات ذلك العملاق و هي تسائلني عن نصيبه !
تعالت الضحكات ، فدخل ماورو فجأة المكتب و هو يقول بصوت أشبه بصوت هولك الأخضر :
ـ ما الذي يحدث هنا ؟ هيا اصمتوا !
تعالت الضحكات من جديد ! كان صوتها مخيفا فعلا ، و لكنه شخص لطيف جدا ! و كان ماورو هذا رجلا ضخم الجثة بشكل شديد ، أشبه بمفتولي العضلات و رجال الأمن ، رجل إيطالي ، بشعر طويل أسود ، و قامة ممتدة ، في حدود الصامنة و الثلاثين من العمر ، يشبه إلى حد كبير أفراد المافيا الذين نشاهدهم في الأفلام ، و كان صوته كفيلا بزرع الرعب في كل من تسول له نفسه ، أن يتشاجر معه ! كان أشبه بصمام الأمن في ذلك المكتب ، مجرد العلم بأنه فيه يعطيك أمانا زائدا ، و كان يعقوب برفقة الزملاء يحلو لهم أن يمازحوه ، بتقليد صوته ، فيبدأ بالصراخ عليهم أن اسكتوا و هو يضحك ، فيضج المكتب بضحكات عالية !
كانت الحياة التي يقضيها في ذلك المكتب ، و التي تتجاوز الساعة و النصف كل صباح ليتفرق كل في اتجاه توزيع رسائلة ، كانت حياة مليئة بالجمال المتجدد ! و كان ديتمر ، يسمع كل هذا في مكتبه ، و يضحك ، و هو فخور بفريق عمله الذي نادرا ما يحدث بينهم سوء فهم ، و لا يؤدي بأي حال من الأحوال إلى القطيعة ! كانت حياة جميلة فعلا ، حمد الله تعالى من كل قلبه أن سخرها له ، زملاء ، أنسوه كثيرا من شعوره بالغربة ، و احتضنوه بينهم كما يحتضن معلم قدير ، تلميذا جديدا التحق للتو بفصله !
ألقى تحية الوداع على زملائه ، ثم ركب دراجته ، و خرج إلى توزيع الرسائل …
كانت مهمة توزيع البريد في المدينة ، مهمة جميلة ، فموزع البريد ، مثله مثل العديد من الوظائف الخدمية ، محترم بين أفراد المدتمع الألماني ، و يتوفر موزعوا البريد في ألمانيا على العديد من مفاتيح العمارات التي يتعاملون معها باستمرار ، يطلبها مكتب البريد من مكتب إدارة العمارات من أجل تسهيل مهمة أفراده ، و كان على يعقوب أن يحفظ أرقام العمارات و مفاتيحها من أجل تسريع نعامله و توزيعه ، و كانت العملية صعبة في أول الأمر إلا أن التعامل اليومي ، جعله يحفظها عن ظهر قلب ، أما المتاجر ، فكان يدخلها ، و يحيي أصحابها ، ويردون عليه التحية بابتسامة عريضة ، و يسلمهم رسائلهم ، ثم يخرج ، و كان المكان المخصص للدراجات لا يقترب منه الراجلون حتى و إن وجد فوق حافة الشارع المخصصة للمارة أصلا ، كان ممر الدراجات مكانا مقدسا سواء فوق الحافة أو فوق الشارع الذي تمر فوقه السيارات ووسائل النقل المختلفة ، فكان يقود دراته بسرعة كيفما شاء و لا يخاف من شيء يعوقه…
كانت مسيرته في توزيع الرسائل تبتدئ من شارع ، و هو شارع كبير ، يحتوي العديد من المتاجر و العمارات ، و كان يبدأ به كونه يأتي في بداية مشواره مباشرة بعد الخروج من المكتب ، و حينما يجد عمارة مقفلة ، و لا يكون متوفرا على مفاتيحها ، كان يحاول في بداية الأمر أن يرن على اسم الشخص الذي لديه إليه رسالة ، حتى غذا لم يستجب يحاول رن أزرار أخرى ، فإذا استجاب شخص قدم نفسه ، و طلب منه أن يفتح له الباب ! و كان الأغلب ممن يرن أزرار منبهات بيوتهم ، يستجيبون بشكل عفوي ، بل و يلقون عليه تحية الصباح ، و قلة قليلة ، كان يتعرض لغضبهم الذي يتمثل في كلمات قاسية لا يتخللها قلة احترام ، و على العموم كان الأمر مسليا للغاية ، فهو عشق إلى حد كبير منذ بداية احترافه للكتابة التعامل المباشر من الناس ، و مبادرتهم بالحديث ، لأن ذلك هو المصدر الرئيس للأفكار التي يستلهم منها ما يديه تخط ! يضم هذا الشارع أيضا أحد المتاجر الكبيرة الشاسعة المساحة التي تختص في بيع و إعادة بيع الدراجات الهوائية ، فكان يدخل إلى هذا المتجر في كل مرة يكون لديهم رسائل عنده ، فيتفرج على الأشكال و الأنوا الفاخرة من الدراجات الهوائية و النصف هوائية التي يبيعونها ، حتى وعده صاحب المتجر أنه في حال فكر في ابتياع دراجة هوائية ، فما عليه إلا أن يقصده ، و سيخفض له في ثمنها كثيرا ، نظرا للأخلاق العالية التي رآها منه ، و حبه الحديث إلى الناس و التعامل العفوي معهم !
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة