تراها توسطت الصحن و اكتست الحلة المذهبة ، غطاها الحياء و الهيبة وهي تلمع بين دموع ضيوف الرحمان، فلا تجد قلبا نقيا إلا و به نسائم هواها ، و لا صغيرا أو هرما إلا منصتا لعذوبة دعواها، فتتسارع الخطى رجلانا و ركبانا عجما و عربانا متلهفة لزاوية أو قيد أنملة لتلمح ضيائها ، و لتصعقك مشاعل الوقار و الطهر و تمتع العين بمعشوقة في قلب الشيوخ و الغلمان إناثا و ذكرانا .

إذا رايتها استجمع حواسك و تاريخك و استنطق مراجعك و أمهات الكتب، و سيعبر وجدانك همس الكلمات ،و طوفان من التعابير و المصطلحات الراوية لما كان و ما سيكون لو وليت وجهك شطرها أو شطر أساقفة الإفرنج و مغول العصر و شيوخ الطغيان.

سواد غطائها حتى و إن كان قاتما فستلمح من خلاله أيام النور و الطهر و حكمة أقدار الرحمان، من هنا مرت النجوم فاهتدت البشرية و التفت حول خير الأنام و صاحب البرهان، فوقفت قوافل أهل الصحراء و الشعث الغبر شامخة تدرس أهل الأرض أسمى الأخلاق و أصول العلوم لما اهتدت بآيات المتين القهار و هدي من أنارت لميلاده دروب و شعاب الشرق و الغرب عبر الأزمان.

تأمل رقة المشهد و عد بتاريخك لحقبة اللغة التي ركعت لها كل السنة المعمورة، و الفصاحة التي ألهبت فطاحل شعراء الأرض فهاموا في كل واد، و عزموا تعلم أبجديات صفحات التاريخ المشرق ،و تفسير آيات نزلت من فوق السبع الطباق، استجمع تاريخ أجدادك و صور بطولاتهم، و ستلتهمك دموع منهمرة بطعم الجمر، و أصوات حسرة تدمي الحجر، ناعية بيوت الطوب و هي تتحول إلى ركام فوق رؤوس ساكنيها ، ما بال يمنكم لم يعد سعيدا ما بال مهد العروبة تحول لساحة تتصارع الوحوش فيها و مسرحا لتقاسم الغنائم و المواريث ، ما بال العرب يخوضون حروبا بالوكالة على بني جلدتهم ، ما بال الخوان هدموا منازل الطوب للآمنين الفقراء تحت غطاء محاربة الإرهاب ، ما بال الصغار الجوعى أصبحوا أهدافا لصواريخ الأرض و الجو، و طبعا بمرافقة الفتاوى المجيزة و المطابقة لهوى السلطان ، فتناسى آهل البلاط التوحيد في ارض مملكة سبا ، و هبت عاصفة الحزم و كأنها تنتقم من ارض ابره الأشرم و هم يغطون الركن اليماني بالبيت المشرف.

طف بالبيت و تحول إلى ركن ارض بابل ، و ستجرحك كلمات الأنين ساردة قصة ارض العراق و أيام الحدائق و زئير قادتها ، و تذكرك بعذوبة الفرات و عبق الدجلة و تمر نخيل لن ينحني ، ما بال عراقكم تكالب الجميع على هدمه ،فقدمت الجحافل من كل حدب و صوب ،منهم من حركته الفتاوى ، و منهم من دفعته التعاويذ و آخرون حركتهم مهمة الانتقام من بابل و ابنتها، فحاصروه و جوعوه وتفننوا في تعذيب أهله ، و بقايا قادة العرب يكرمون الغزاة و يقلدوهم الأوسمة و يطبلون لهم و يرقصون و يستبشرون بالديمقراطية و الحرية و هي تعبر جسر بغداد محمولة على فوهات الدبابات.

ما بال ارض العزة و العروبة و الإباء عادت خرابا، تماما كما نصت عليه نبوءات كتبهم، ما بال الأرض أصبحت موطأ الفرس و المجوس و أحفاد كسرى ،ما بال الإخوة اختلفوا و ذهبت ريحهم و العراق معها، ليقف في النهاية الجمع و هم يولون الدبر متباكين كالنساء على وطن لم يحافظوا عليه كالرجال أو على الأقل أشباههم.

ما بال شامكم تسعى كل مخابرات العالم بالتعاون مع حلفائها لقطع عبق الياسمين الذي عطر صفحات التاريخ ، فرحلة الصيف شاهد ، وخصوبة الأرض ثروة ، و أبواب دمشق المفتاح للترحيب بضيوف الحارات لزيارة معاقل أبطال الإسلام و قادتهم.

ما بال الدمار أتى على ارض الكرامة و معاقل الخير ، ارض حولتها الوحوش الضارية إلى حطام و خراب و على المباشر ، القتل و التنكيل و التفنن في الهدم، مفوضين أمرهم للروس و الفرس و عبدة اللات ،فوقف اللبيب حيرانا و المؤرخ صامتا لا يدري ما يكتب.

و أنت تطوف بالبيت العتيق، استشعر تاريخا ثقيلا صنعه الإنس و مخلوقات لا تعصي الله أبدا، لهم بدورهم بيت معمور يطوفون به و لا يعودون ليوم الدين، تنفس هواء الكرامة و استنشق عبق الحياء و الهيبة و تسائل عن العارية المغنية و هي تصدح بأرض الحرمين و بكل دروب ارض التوحيد ، تسائل عن المعلم الهائم بين الدهاليز باحثا عن اللقمة و السروال، ابحث عن سلم القيم الذي أضحى فيه لاعب الكرة مثالا، و مغني الملاهي قدوة، و شاعر الإغواء مصلحا، و الواشم ممزق الملابس مدرسا لجيل جديد ،مراجعه حثالة الغرب و أفكار الانحلال تحت قبعة الانفتاح و العصرنة.

أكمل طوافك و صل ركعتين داعيا المولى عز وجل، أن يبرم للأمة أمر رشد، يعود المعلم لقمة الهرم و تعود المغنية لجادة الصواب و تصلي خمسها، و نكفكف بدورنا وبكل صلاح و إصلاح..... دموع البيت العتيق.

محمد بن سنوسي 26-03-2018