عصر التفاهة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عصر التفاهة

  نشر في 28 ديسمبر 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

عند الحديث عن التفاهة، فإن من الخطأ ربطها بأي أحكام أخلاقية أو دينية، فالسمة الأساسية للتفاهة هو عدم تعلقها بأي قيم إيمانية، بل هو تصور يقوم على تسطيح كل دلالة أو مفهوم ليتجرد من أي معنى أو قيمة، وتتحول إلى مجرد مظهر أو عادة لغوية أو سلوكية. وإذا حاولنا أن نجد ما يميز هذا العصر فسوف نجد أن عصر التفاهة هو المصطلح المناسب لتعريف تلك المرحلة من زماننا. 

نستطيع إن نجد التفاهة في كل ما حولنا و في من حولنا، فأبسط شئ قد يثير أعصابك ليس لبساطته أو سطحيته، بل عندما يضخم التافهون توافه الأشياء ويجعلون له قيمة. ويجب عليك أن تسأل، أليس لدى أولئك الأشخاص أشياء أهم ليفكروا فيها، لكن أليس في هذا السؤال شئ من التسلط وإحتقار الغير، لماذا يجب أن تكون اهتماماتنا و مشاغلنا في الحياة هى نفسها محل إهتمام الأخرين ومشاغلهم. لكن ليس الحديث هنا عن تمايز في الأنشطة بل عن تمايز في طرق التفكير وتحديد للأولويات. فمالفرق بين المحتويات الدينية وبين المحتويات الغنائية أو الكوميدية، إذا كان الغاية هو تحقيق النجومية والشهرة، وإذا كان دائما مضامين تلك المحتويات، ليست سوى تكرار مبتزل يشعرك بالتقزز والإشمئزاز. ألا تختزل القيم الدينية لتصبح مجرد سلعة تجارية داخل سوق العرض والطلب، بل ألا تختزل الحياة بكاملها في توافه الأمور. على سبيل المثال أستطيع أن أفهم متابعة الناس للرياضة ككرة القدم وتشجيع إحدى الفرق، ولكن لا أستطيع أن أفهم التعصب المحموم لإحدى الفرق، تعصب يفضي أحيانا للمرض، لماذا لا تتوجه تلك الطاقة للقضايا السياسية و الإجتماعية، أليس هذا جهل بالأولويات.

في عصر التفاهة، فإن حضور الجسد كفضاء لممارسة التفاهة يعكس أيضا إشكالية الجسد كفضاء لممارسة العنف، فإذا انتفت أهمية وجود المعنى وتحول الجسد إلى صورة مثالية أو رمز متعالي، من خلاله نطلق أحكامنا، فحركات الجسد لم تعد تعبر عن ذواتنا بل أصبحت حركات إستعراضية تعبر عن صورة متخيلة في أذهاننا حول الجسد المثالي وسلوك الجسد المثالي. إن الهوس بالحمية الغذائية و البنية العضلية ولون البشرة ومظهر الشعر. كل هذا لا يعكس رغبة طبيعية في الجمال، بل الجمال هنا يعكس نوع التصور أشبه بالتصور الديني وطقوس دينية، يتحول فيها الجسد إلى ماهية مقدسة، ليس الجسد الذي ننظر إليه في المرآة، بل جسد متخيل لا وجود له، نريده أن تنعكس صورته في أجسادنا، كنوع من الاتحاد الصوفي بين العبد وإلهه. 

في الحمى الدينية تلك، نمارس العنف على أجسادنا كما نمارسه على الأخرين، نقهره على ما يكون عليه ونفصله على ذواتنا، ليصبح مجرد دمية إستعراضية، تجبرنا تلك الدمية أن نحركها وفقا لارادتها هى وليس وفقا لارادتنا نحن، ونمارس أحكامنا الدينية والأخلاقية على الأخرين وفقا لذلك الإله المتخيل، جسد لا يظهر عليه التقوى والصلاح أو جسد لا يظهر عليه الوقار والحشمة أو جسد لا يبدو عليه النعمة. فمركزية الجسد التي تعكس تفاهة العصر، تعد كل تفكير أو سلوك لا يعكس تلك المركزية، سلوك خارج، ليس وفقا للمقتضى ديني أو أخلاقي بل وفقا لمعايير الذوق العام و الأداب العامة. أصبحت ثقافة الاستعراض شئ طبيعي. تصل الشعوب إلى مرحلة الجمود عندما تماهي بين الطبيعي والمختلق، لكن عادة ما يكون المختلق رؤية دينية أو تصور فلسفي، لكن عندما يصبح المختلق أحاديث الموضة والأزياء والكرة ومواعظ و نصائح ساذجة، فإننا نعيش في مرحلة من العبثية التي لا معنى لها، عبثية تجعلك تحتقر كل شئ وتشمئز من كل شئ، شعور يجعلك تتسأل لماذا لا تصبح تافه مثل الأخرين، لتدرك أن تكون تافه أو لا، ليس باختيارك أو باختيار الأخرين لتعذر الأخرين في تفاهتهم، لكن هذا لا يجعلك لا تحتقرهم، إحتقار ليس نابعا من غرور بالذات بل إحتقار نابع من إشمائزازك من تلك الماهية البشرية ونابع من إحتقارك لهذا العصر، عصر التفاهة.



   نشر في 28 ديسمبر 2020  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا