د. محمد بن عبدربه المورقي - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

د. محمد بن عبدربه المورقي

الباحث الدؤوب، والإداري الناجح، والمعلم الرحيم

  نشر في 09 ديسمبر 2022  وآخر تعديل بتاريخ 18 ديسمبر 2022 .

الحمد لله على كل حال، في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق: ١٤٤٤/٥/١٢هـ هزنا نبأ وفاة الشيخ الفاضل د. محمد بن عبدربه المورقي، تلقيت الخبر وبقيت للحظات مشدوهاً لا أحس بشيء من حولي، حتى الهاتف الذي بين يدي، تعجز الكلمات عن وصف مكارم هذا الشهم النبيل، كم كان رحيما بالطلاب كريما معهم..

والله أحق بالرحمة والكرم.

لا أعلم عضو هيئة تدريس في الجامعة أحرص على الطلاب من أنفسهم مثل هذا الرجل المبارك.

والله إنه رمز في التضحية والتفاني والخدمة.

كان يرفع شعار: "الطالب أولاً" حقاً وحقيقةً.

يخبرني أنه دائما ما يقع في مواقف محرجة مع الأعضاء والمشايخ من أجل الطلاب ثم لا يبالي بذلك.

أحد الزملاء من دولة خليجية واجهته مشكلة متعلقة بالدراسة، فلما أخبر الشيخ استلم معاملته وانطلق من فوره كالسهم نحو عمادة شؤون الطلاب بأقدامه، الطالب يحلف لي بالله أنه لم يستطع اللحاق به ودخل المبنى بعده.

لم يكن يمشي في قضاء حوائج الطلاب، وإنما يهرول لها هرولة!

أوتي تواضعاً جمًّا، وعلماً غزيراً، وبساطة آسرة..

كانت محاضراته ومذكراته التي يؤلفها بنفسه؛ مليئة بالفوائد القيمة، ينادي طلابه في القاعة بوصف "الشيوخ"، رحيماً إلى أبعد حد، لم أرَ معلماً أرحم بطلابه رؤوفا بهم؛ منه.

شكوت له مرة وأنا طالب أن جدولي في هذا الفصل ٢٧ ساعة، فضحك وقال: وأنا جدولي٢٧ ساعة!

أصابني الذهول من كمية صبره وتحمله.

وأعلم علم اليقين أن أغلبها لسد احتياج القسم، أو كشف كربة خريج لم يتبق له إلا مادة وحيدة، فينبري الشيخ لها.

لم أدرك حقيقة معاناة هذه الساعات إلا بعد أن توليت زمام التدريس، ورأيت أن ١٦ ساعة فيها من الإرهاق ما يكفي!

ثم إنه بعد ذلك لا يكاد يتغيب عن محاضرة أو يتأخر عنها إلا في أحلك الظروف وأصعبها.

سألته مرةً عن موعد نزول الدرجات فذكر لي طَرفاً من المعاناة التي يجدها في التصحيح، إذ إنه كان يصحح الفقرة الواحدة لجميع الطلاب، فإن وجد الأغلب أخفق فيها؛ كافأ المحسن وتجاوز عن المخطئ، وأعاد تقسيم الدرجات وفق الفقرات التي تليها!

يا لله من طريقة مضنية لا أعلم من يقوم بها سواه.

شرح لنا عددا من الأنظمة والقوانين مع إلمام كبير بالفقه الإسلامي، كان حنبليًّا، ومغرماً بالفقه المالكي والحنفي، ولديه إلمام كاف بهما باعتبارهما أكثر من كتب في أبواب السياسة الشرعية والقضاء كما بيّن لنا، كان يعيش مع الفقهاء، ويتحفنا حتى بتفاصيل حياتهم من سيرهم، وكان يوصينا بالقراءة في كل محاضرة تقريبا.

له خط في الكتابة يميزه، نقلت له مذكرة قيمة إلى الكمبيوتر كان قد كتبها كاملة بخط يده -رجع فيها إلى مراجع كثيرة من مكتبته- فراجعته في مواضع عديدة أسأله عما هو مكتوب، فكان يضحك ويقول: ابن عبد الهادي الحنبلي رحمه الله كان معروفاً برداءة خطه، ولعلني مثله في هذه الصفة.

درّسنا يوماً مادة: النظام الإداري للحكم

كان أسلوبه مثل الماء الذي يتدفق، حكيماً إلى أقصى حد.

كلامه متوافق مع جميع الأفكار والتوجهات.

لا تكاد ترد عليه حرفاً، أو تعثر له على زلة.

سبحان من ألهمه وأعطاه.

كان مطمئنا دائماً، هادئ الطبع، لم أره يوماً في حالة مستثارة، مع ما كان يجده من الطلاب من تصرفات قد تكون غير مرضية.

لا أشكو إليه أمراً أو أقص عليه حدثا إلا ويحمله على جانب الطمأنينة، ويردني إليها إن لمح أني خرجت عنها، ويكرر في كلامه: يا ولدي... يا ولدي...

إلى أن ينشرح صدري.

انصرفت يوماً معه من محاضرة في الفصل الصيفي، ولما خرجنا من بوابة الكلية، طلبت منه نصيحة، فتوقف، وأخذ بيدي وهو ينظر إلى مواقف السيارات بعينه، وقال: يا شيخ حمزة! أوصيك أولاً بتقوى الله، وثانياً ألا تتحزب مع أي حزب أو جماعة، ثم قال: هو سماكم المسلمين يا شيخ حمزة، فاكتف بهذا الاسم ولا تنخرط في أي حزب.

أقسم أن النصائح في حياتي كثيرة، ولكن هذه النصيحة ظلت رنانة في أذني: هو سماكم المسلمين.

في الصيف الذي يليه، طلبت عدداً من المواد ولم تنزل إلا مادة وحيدة له، فتركت الأمر غفلةً وجهلاً مني، وانشغلت بالسفر.

ثم فوجئت عند بداية السنة الدراسية أنه لم يجدني في المحاضرات الصيفية فلم يضع لي حرمانا من المادة (وهو ما كنت أستحقه) بل جعلها لي معلقة، لأعيد دراسة المنهج ويختبرني بعدها بعدة أشهر ويضعها لي أ+ فيبقى معدلي طيّبًا، اللهم نعمه في قبره وطيّبه له.

من أشد ما يميزه أنه كان طالباً للعلم طيلة حياته، لم يتوان عن الإفادة من أي أحد في أي لحظة. خرجت يوماً من محاضرة في الماجستير ووجدته في القاعة المقابلة مع أحد مشايخ المواريث والوصايا يطلب منه شرح آلية جديدة كان قد توصل إليها، ووجدت الشيخ محمد قد أوقف الشيخ الآخر على السبورة، وجلس هو محل الطالب! كان منظراً لطيفاً مهيبا، مليئا بالجلال والجمال.

باحث من الطراز الرفيع، يناقش مشايخ القسم فيما يتقنونه، ويستفيد ويفيد.

حكى لي مرارا عن أبحاث عديدة له لم تر النور، وحبيسة الأدراج - حسب وصفه- جُلّها في الدراسات القضائية والنظامية، قلت له يوماً: أسأل الله أن يخرجها إلى النور، وخُيّل إلي أنه لم يكن مهتماً لذلك كثيرا، ولا أدري اليوم عن حالها.

لديه حساسية ملازمة له في أنفه، أخبرني لاحقا أن كتبه قديمة، وبعضها أثري، وعليها من الأتربة ما عليها، وأخبرني أن القراءة سببت له حساسية أنفه وضعفاً في بصره ولكن لم يُضعف ذلك من شدة إقباله عليها.

درَست مادة "وسائل الإثبات" عند أحد الفضلاء فطلب منا بحثاً، فلما خرجت اتصلت بالشيخ محمد وأخبرته أنني أتوق للبحث في "فراسة القاضي"، ففرح بالفكرة كثيراً، وتشجع لها من أجلي، وقال اذهب إلى مكتبي -وأنا معه على الهاتف- فذهبت، فقال افتح الدولاب الأيسر وانظر في الرف الأعلى، فوجدت كتاباً معاصراً في طرق الإثبات، فقال: هو هدية لك!

أسأل الله أن يكرمه بكرمه ويحسن وفادته.

علم أني تعينت معيداً في كلية الدعوة، فكان أول اتصال بيني وبينه أن أوصاني على الطلاب أولا وآخراً، الطلاب ثم الطلاب ثم الطلاب، ثم لا شيء آخر!

سألته يوماً عن أعمال الأقسام الإدارية، فقال ناصحاً وموجهاً: لا تسرف فيها، فإنما مثلك مثل العامل الذي يحمل أكياس الاسمنت على ظهره وليس له من ملك العمارة شيء! ولكن الأقسام تحتاج، فاعمل فيها بقدر من الوعي والاتزان.

هل كان جوابه من باب التهرب والتقلص الانسحابي الذي يجيده الأغلب؟! لا والله!!

إليك هذا الموقف:

كنّا في حالة عسيرة مع الحذف والإضافة إلى أن تولى الشيخ محمد منصب منسق الكلية (وهو القوي الأمين) فلم يتولها ليشكل لجاناً أو يوجه أشخاصاً، وإنما تولاها لينزل الميدان بنفسه، ويخلي بينه وبين الطلاب، ويمكث في الجامعة من الساعة الثامنة صباحاً وحتى وقت متأخر من الليل، لا يرتاح إلا نزراً يسيراً في وقت العصرية!

في الفصول الدراسية الأخيرة كانت زيارة مبنى عمادة الدراسات العليا جزءا من جدوله اليومي، أو الأسبوعي كأقصى تقدير.

يقضي حوائج الناس، ويدعو له الطلاب والطالبات.

هذا بالإضافة إلى مشاركته في بعض اللجان الخاصة على مستوى الجامعة.

في مرحلة الماجستير؛ عينت الكلية لي مرشداً أكاديمياً فانتهى تعاقده، مَن غير الشيخ محمد يبدي جاهزيته الفورية؟! كُتبت الخطة، استعمل جميع ما أعطي من أساليب لقبولها، قُبلت الخطة، كان دور الإشراف على أحد مشايخ الحرم فاعتذر، من لها غير الشيخ محمد؟! أعلن قبوله المباشر على الإشراف بالرغم من اكتمال عبء نصابه وشدة الضغط عليه.

كان لطيفاً في توجيهاته، قرأ كل حرف كتبته، وكانت رحمته تسعني وتسع رسالتي، كم عدل عليها وكم أضاف، ووجهني حتى في دقائق الأمور بكل لطف وروية.

استعملت في رسالتي بعض الأساليب الخطابية التي لا يعترف بها الجانب الأكاديمي الرتيب، فنبهني عليها بغاية اللطف بأن قال: كنتُ في رحلة للطائف وسهرت على رسالتك، وكنتَ أحياناً في وسط الكتابة تصعد المنبر وتقوم فينا خطيباً وتعظنا، فأقولُ: انزل يا شيخ حمزة من على المنبر! ويضحك.

اللهم اجعل وجهه مسفراً ضاحكاً مستبشرا.

ما رآني يوماً إلا تبسم في وجهي.

اقترب موعد المناقشة، فأجرى معي اتصالاً قرابة الساعة، يوجه ويعلم، ثم في آخر الاتصال شكرته، وذكرت له أنه صاحب فضل علي من مرحلة البكالوريوس وحتى الان، وتذاكرت بعض مواقفه، وأنني لا أزال أحتفظ بوصيته على الطلاب، فأخذ يزيدني وصية عليهم والرحمة بهم إلى آخر المكالمة.

رغب أن تكون المناقشة قبل دخول شهر رمضان الماضي، فكانت -على ما أراد- في أواخر شعبان.

يومها كان دفاعه مستميتاً -بحسب تعبير أحد المناقشين أثناء المناقشة- ولما انتهت المناقشة اتصل بي في الليل، وأكال لي من عبارات التشجيع ما التأمت به مواضع سهام المناقشة، وقال لي في نهاية الاتصال مسلياً: يا شيخ حمزة! لابد أن تتزوج، رسالة الدكتوراه تحتاج إلى روحين امتزجتا، لا تكفي فيها روحك وحيدة! فابتسمت واستأنست.

بعدها أرسلت له دعوة حضور حفلة الزواج، فأرسل لي داعياً مباركاً مهنئاً، وكان آخر اتصالي المادي المحسوس به. وللاتصال الروحي خير وأبقى.

داهمَته نزلة برد مفاجئة، واستمرت معه أسبوعاً، واشتدت عليه في آخر يومين، إلى أن فارق الدنيا على إثرها، أسأل الله أن تكون كفارة له ورفعة في درجاته.

بقيت حالته في "تويتر" دهراً: كن مع الله وأبشر.

واستقرت في "الواتساب" على: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

كان موته فاجعة، وكانت جنازته مشهودة، حضرها لفيف من أهل العلم والفضل، لا يكتمون أحزانهم، ويلهجون بالذكر والدعاء له.

صُلي عليه عصراً في المسجد الحرام، واستقرّ جسده في مقبرة الشهداء بالشرائع إلى أجل، وطابت روحه وأنست بجوار ربها إن شاء الله.

هذه قطرة من بحر أخبار الشيخ الفاضل محمد بن عبدربه المورقي، وهو نموذج مثالي للسائر إلى الله من طرق عديدة، ولعضو هيئة التدريس المتميز في أداء عمله، المحيط به من جميع أركانه، فقد كان باحثاً دؤوباً، وإدارياً ناجحاً، ومعلماً رحيماً، مع الاحتفاظ بحقوق الأسرة والرقي بها، جعل الله له كل ذلك رفعة في درجاته، وذخراً له يوم يلقاه، إن ربي واسع المغفرة.

وإنا لله وإنا إليه راجعون. 



   نشر في 09 ديسمبر 2022  وآخر تعديل بتاريخ 18 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا