روح الكلمة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

روح الكلمة

  نشر في 27 ماي 2017 .


مثلًا، وإن كان المثلُ سيُطيل بنا الكلام:

إذا خرجت من امتحانٍ سهل وسُئلتَ فقُلتَ:” الحمد لله” ، ثُم أنت أنت ذات الشخص إذا خرجت من امتحانٍ آخر أصعب وسئلتَ فقُلتَ:” الحمد لله” ..

هل يستوي القولان؟

.

ما أيسر أن تجد إنسانًا بسيطًا! بسيطًا في هيئته يضبط أزرار قميصه ويُصفف شعره في بساطة تامة، بسيطًا في مُعاملاته وعلاقاته هشًّا فيها لا يُلقي لها بالًا، وما أيسر أن تجده مع كُل ذلك بسيطًا في مشاعره لا يُلقي بالًا لنعمةٍ أنعمها اللهُ على أحد إلا أن يستدل بها على أن عند الله في جنته ما هو خيرٌ منها، ولا يأبه لظُلمٍ من أحد إلا أن يزداد يقينًا أن الله قد أعدّ يومًا آخرًا يُسألُ فيه كُلٌ عمّا عدل وظلم! لكن والله ما أصعب أن تجد إنسانًا بسيطًا حين يتكلم!

.

علّمونا قديمًا أن:” الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر ويُخبِر بمكونات السرائر، لا يُمكِن استرجاع بوادره ولا يُقدَرُ على شواردِهِ” وفي المثل، فأما الحمد الأول فهو شُكرٌ وثناء، وأما الحمد الثاني فهو رضًا ووفاء .. وليس بمقدور أحد أن يعرف الفرق بين المعنيين إلا إذا عرف ما أحاط بالكلام من شعورٍ، وما أجراه على لسان قائله من سببٍ وما في نفسه من خواطر وأفكارٍ وشعورٍ أفضى به إلى ما قال، وكل تلك الكواليس التي تُصوّر لك لفظةً دقيقة بناؤها كلمتان!

.

قيل أنّ الإبهام هو أعلى درجات البيان، لأنه لا يُوقفك على الألفاظ فقط! وإنما يجعلُك تبحث عمّن قال؟ ومتى قال؟ وفيم قال؟ ، وعلم الكلام والأدب واللُغة على قدر ما يُظن أنه من أكثر ما يُقسّي القلب ويُبعد عنه أنوار الوحي الإلهي في القرآن الكريم، إلا أنه من أعظم العلوم التي تُرقق القلب وتُعظّم فيه معرفة قدرة الله في خلقه للإنسان، هذا الكائن المُعقّد الذي يظلُ مخبوءًا تحت لسانه كما قيل، هذا الكائن الذي يحوي بداخله آلاف المشاعر ويُحدد سياق حديثه معنى كلماته وألفاظه ..

حين يُبحر الإنسان مُستحضرًا أن ما يُقال ليس على ظاهر ما يُقرأ = حين يُبحر في بحار آيةٍ من القرآن ورحابها، أو قصيدةٍ أصيلةُ العربية، أو نثرٍ وحكمةٍ حفظها التاريخ، وحين يسبر أغوار تلك المعاني لا يسعه إلا تنهيدة! تنهيدة تُوسع في صدره مكانًا يستزيد فيه من المعاني التي يروي بها ظمأ نفسه في الفهم والإدراك!

.

ولا عَجَب حين تسمع قول النبي ﷺ لمُعاذ:” وهل يُكب الناسَ في النارِ على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم!”

ولا عجب حين تقف على قول الله تعالى:”أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا؟ فَكَرِهْتُمُوهُ”

ذلك أن الكلمة لا تُنطق كما تُكتب، وإنما يُحيطها فيضٌ من المشاعر والدوافع لا يُفهم إلا حين تقف على الكلام وتُكرره وتستفيض في شرحه لنفسك .. لا يُفهم هذا التصوير الإلهي للغيبة أنها أكلٌ في لحم الموتى إلا حين تقف على الآية وتُكررها وتفهم غريبها مرةً ثُم تقف على فهم ما فهمت مرةً وهلُمّ جرّا ..

.

وإن طرفًا من هذا القدر العظيم لما يخفى خلف الكلام من معانٍ راسخةٍ في النفوس، يُلمس حتى في علوم الهندسة والعلوم التطبيقية، يُلمس حين تقرأ في كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي قوله:” وإني لما نظرت فيما يحتاج اليه الناس من الحساب وجدت جميع ذلك عددا. ووجدت جميع اﻷعداد إنما تركبت من الواحد و الواحد داخل في جميع اﻷعداد . وجدت جميع ما يلفظ به من اﻷعداد ما جاوز الواحد الي العشرة يخرج مخرج الواحد ثم تثني العشرة و تثلت كما فعل بالواحد فتكون منها العشرون والثلاثون الي تمام المائة ، ثم تثني المائة و تثلث كما فعل بالواحد وبالعشرة الي اﻷلف ثم كذلك تردد اﻷلف عند كل عقد الي غاية المدرك من العدد. ووجدت حساب الجبر و المقابلة علي ثلاثة ضروب وهي جذور و أموال وعدد مفرد لا ينسب ألي جذر و لا الي مال.”

.

وإن في كلامه هذا شيءٌ عجيبٌ من ثقافته الإسلامية يُبصره من أمعن فيه النظر، ويستريح له من شعر بالروح فيه، وإن في علوم الغرب بلغتهم أيضًا شيئًا من جمود المادية التي غرقوا فيها، ولست أزعم أني أبصرتُ إلا طرفًا بسيطًا أحب أن أستزيد في فهمه أكثر قبل أن أتكلم فيه.

.

وتبقى الكلمة بما حوت هي روح هذه الأمة وضميرها المخبوء عن عيون الناظرين الجليّ لقلوب المُحبين لها، تبقى روح اللغة حاضرة في دقيق الكلام وعظيمه، وتبقى الكلمةُ مصدرًا للحيرة والبحث والتأويل إذا أُخذت على محمل الجد والفهم والتعمق، ولا يُمكّنُ في ذلك إلا لأبناء هذه اللغة بثقافتهم وعلمهم وإيمانهم التام بما جاء فيها، ودأبهم في فهم غريبها وواضحها فهمًا لا ينتهي حتى ولو على أعتاب الجنة فإنها لُغتهم فيها.



  • Bilal gamal
    ‏نهرب للكتابة كأطفال يرغبون بتجربة حياة الكبار.
   نشر في 27 ماي 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا