كورونا .. من حيث لا تدري - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

كورونا .. من حيث لا تدري

  نشر في 27 مارس 2020 .

لن أنسى عندما كنت أجلس إلى صديقي الصيدلي الذي شاركني خدمتي العسكرية، كنت ألح عليه بأسئلة طبية يستغربها، ويسألني متفاجئاً أو ضاجراً :"جبت الكلام دا منين؟" .. فأحياناً كنت أقول له المعلومة الخطأ، والتي تكون في الأغلب منتشرة على نطاق شعبي كبير، كنتُ أطمئن عندما ينفي ثم يصحح، لأن بهذه الطريقة تكون عملية (فلترة) المعلومة مضاعفة، وهذا أوكد وأثبت.

ذات مرة سألته عن الفرق بين الفايروس والبكتريا والفطريات والطفيليات، كانت محاضرة مطولة، جلسنا فيها قرابة الساعة يشرح لي الفروقات بحذر، مخافة أن (اسقَّط) منه في وسط الشرح لكثرة اعتماده على مصطلحات التخصص والتي كنت أغامر بتسجيلها في (نوتة) صغيرة مازلت أحتفظ بها لليوم.

قال لي: "الفايروس دا not a living thing كائن مش حيوي بيتكون من ظرف بروتيني (Protein envelop) والحمض النووي (DNA)" وأكد لي:" مشكلة الفايروس أنه سريع" وذلك بالأخذ في الاعتبار أن وسط التكاثر الخاص بالفايروس هو الخلية الحية والتي يستوطنها ويتغذى على البروتين.

هنا يبرز كورونا .. كفايروس .. من حيث لا تدري، ومنذ بدأ في الانتشار والتوسع في غزوه على مدار ما يقرب شهرين. في هذا المقال سأتناول بعض النقاط السريعة عن المرض الجديد الذي أثار شعور مستجد لدى سكان الكوكب وانعكست آثاره على كتابات أقلام الفكر الحديث بشكل لا يجعل لنا من بد إلا أخذ أفكارهم بشكل جدي.

إذن هي إلماحات خاطفة، وربما مبتورة دون سياق مترابط، ولكنها أيضاً، تبرز لك .. من حيث لا تدري.

1) الصين وخلافه.

لم يكن ازدياد العنصرية والتمييز تجاه الصينيين إلا نتيجة -قد تبدو- مبررة بدعاوي الوقاية من احتمالية متزايدة بان الشخص الصيني هو أكثر عرضة لنقل المرض وتناقله، وذلك لسبب وجيه جداً رغم سطحيته، وهو كون كورونا نشأ في الصين ابتداءً.

لا يكاد يفارق ذهني شريط الأخبار الملون الأحمر الذي يعلن الأخبار العاجلة، حين تزداد حمرته مع أخبار مغلفة بنبرة حذرة وشعور قلق، تبدأ هذه الأخبار لكلمة (القبض) على مشتبه به بمرض الكورونا، أو (فرار) ركاب حافة للاشتباه في مصاب بالكورونا، ومع الإتاحية التقنية، ظهرت فيديوهات التحرش اللفظي، فيديوهات أذى، مادي ومعنوي، لكل شبيه صيني .. حتى تم عرض فيديو لأحد المناطق في مصر حين تدحرج الركاب والمارة فوق بعض فراراً امام شاب صيني مسكين قتله شعور النبذ ومزقه الإحراج العام أمام عدسة أحد الهواتف.

هذا السياق المنحدر في الأخلاقية له أثره الهام، فمن حيث تدري أو لا تدري تؤثر الأمراض في الأنساق الأخلاقية لجماعات أو الأفرد، وفاعلية الضمير ومعايير جودة منظومة القيم التي تنظم حياة الواحد في الجماعة ويلتزم هو بها.

وبعيداً عن كون الأنانية بُعد أساسي وركن أصيل في التكوين البشري، فإن حالات البذل ولحظات العطاء -وهي كثيرة- مرتبطة بشكل رئيس برفاهية الباذل وميسورية مستواه المادي، لكن ماذا عن المستوى العاطفي؟

قرأت عن حالة ممرضة صينية في ووهان أصابتها كورونا الآثمة عندما كانت تنقذ آخرين من المرض، اضطرت للبقاء بالبيت .. الكورونا ليست ذلك المرض العابر، أحد أعرضه الهزال والخمول .. لذلك اضطر زوجها (مصمم الفيديو والمونتاج) ان يعكف على خدمتها، يلبس سترة واقية على باب غرفتها، يقدم لها الطعام الذي أعده لها، ثم يخرج، لكن خروجه كان يتأخر أحياناً عندما كان يتوقف أمام بكاء زوجته من الألام، يحاول أن يواسيها ويشجعها، لكن كانت تنهره وتطرده من الغرفة، حتى لا يصاب بالمرض.

كثيراً ما كنت أسأل نفسي دون الوصول إلى جواب معلن، سؤال خيالي لم يجبني عليه أحد قط: ماذا إذا كان هناك إنسان مريض بمرض ما، أنت تشفق على هذا المريض وتتعاطف مع حالته وتود مساعدته فعلاً للشفاء، لكن لا وسيلة لشفاء هذا الإنسان من مرضه إلا أن تقبل أنت أن تحتضن المرض مكانه، وتصاب بعلته، عندها ستنتهي معاناة هذا الشخص .. هل ستقبل؟

2) جيجيك في ووهان

صرح سلافوي جيجك الفيلسوف سلوفيني في مقابلة قريبة معه أنه رأى حلماً، أنه في ووهان! وصرح للصحفي المحاور أنه (مريض الآن) لكنه سرعان ما أكد أن مرضه لا يمت للكورونا، مما سد الطريق أمام سؤال مختل البنية: "هل يمكن للأمراض أن تنتقل في الأحلام؟!!"

جيجيك الذي رأى في انتخاب ترامب فرصة (حسنة) لصالح الفريق الذي ينتمي إليه (اليسار الشيوعي)، قدَّر أن ترامب سيكون فرصة للتكتل والاجتماع بين الفرقاء مما يخلق فرصة (حسنة) مهيئة لنجاح الفريق نصير العمال، هكذا جيجيك يرى من وراء الحجب، يبحب أن يخترق بنظره القشور، يتوصل إلى أشياء دفينة لا يصل إليها إلا مغامر وربما مقامر.

في مقالته الأخيرة (فايروس كورونا والايدلوجيا) تطرق جيجيك لمسألة الأخلاقية أيضاً لكن من جهة جديدة، بدأ بذم الفردانية ومركزية الإنسان المزعومة وسيطرته الموهومة في قلب الكون، نعم لقد شدد العلم في تشتيت مفهموم مركزية الإنسان، المبدأ الذي أكدت عليه الأديان، وروجت له في مزادات استهلاك الكون واستنزاف الطبيعة، كل شيء ملك الإنسان، مسخر له، فقط ليؤمن، كأنه ثمن شراء ولاء، بيع وشراء.

الإنسان في عصرنا الحديث لم يعد قطب أحادي تدور حوله الأفلاك مثلما صور بعض المؤمنين صورة الكون على هيئة (ماكروسيستم) لصورة الإنسان المركز، فالأرض وسط ثابتة، والكل في فلكها يدور، لكن بفضل العلم جاءت بيانات تقول بشيء جديد صار (بدعة) غير بعيدة، إلى وقتٍ قريب.

لكن مع التطور العلمي لا يزال لدى الإنسان تلك النزعة التي يظن فيها نفسه أهم أعضاء الكون أو عنصره الفذ .. ربما يصح ذلك .. لكن الغرور لا يصح أبداً .. خصوصاً عندما يقترن بـ (أفعل) التفضيل .. أذكى، أحسن، أعلى، أغني .. حيث يصير ويتحول هذا التفضيل إلى إطلاقية بلا حدود، فربما يظن الإنسان نفسه مطلق لا محدودية له، فينافس ربوبية الآلهة من حيث يدري أو لا يدري.

هنا عاد جيجيك ليذكرنا أن مثل تلك الأحداث تعيدنا إلى خانة الوعي بالذات وإداراك حجم الإنسان بالنسبة إلى الطبيعة، حين أدرك الإنسان حجم سيطرته على الطبيعة وأنه متحكم فيها بكل وجه، الآن الطبيعة تستعيد سلطتها وتبادر في ترويض أطماع الإنسان المدمرة.

ومع امتداد طاغوتية الإنسان إلى هذا الحد، لم تعد المصيبة في أفعاله أو طرائق تفكيره المستقلة عن البيئة، بل في اختفاء شعوره بالندم و الذنب، موت ضميره البيئي، المصيبة أن شعوره صار منعدماً، أنه لم يعد يشعر .. أنت .. ماذا تشعر حيال الطبيعة عندما تقطف وردة من بستان؟

3) مالتوس يبتسم في قبره

ينظر إلينا من بعيد في صورته الشهيرة، وجه لامبالي، قليل التعبير، كأنه ينادي في صمت صارخ: "الويل لكم!"

النظرية المالتوسية أو شبح مالتوس أو نظرية تناقص الغلة، واحدة من أكثر النظريات رعباً في العالم. توماس مالتوس هو عالم سكاني انجليزي شهير، وضع النظرية عندما لاحظ الزيادة السكانية المتفاقمة في عصره -عصر النهضة الصناعية- تعتمد نظريته على مصطلح مائدة الطعام، هذا تشبيه للطبيعة، مواردها وخيراتها، يتحدث مالتوس عن أن الزيادة السكانية التي تزيد بتوالية هندسية (1،2،4،8) في مقابل الزيادة في الإنتاج الغذائي (غلة زراعية) الذي يزيد بمتوالية حسابية (1،2،3،4) سيؤدي حتماً إلى اختلال ميزان طبيعة الأشياء، ووضع مسارات دائرية مغلقة تنتهي نهايات مأساوية الفواجع.

مع ظهور الثورة الصناعية، عندما دارات الماكينات العاملة بالفحم، أخبر مالتوس عن مجتمع إنساني من طبقتين، طبقة عريضة تزداد فقراً، وطبقة (محدودة) تستشري غنىً .. ومع الزيادة السكانية، وقلة الغذاء ستكون أغلب الزيادة في الجانب الفقير، ذلك الجانب الذي لا ينتج لكنه يستهلك، هنا يتصور مالتوس الطبيعة كمائدة طعام، وعلى كل فرد من أفراد عائلة الكوكب أن يسهم في الطعام الذي سيوضع على المائدة، بمعنى: أن الذي يكون عالة ولا يشتغل ولا يساهم في الإنتاج العالمي، لن يكون له مقعد على مائدة الطبيعة.

لكن ما يهمني هنا هو هاتان الخصيصتان اللاتان وضعهما كآليات دفع عجلة الطبيعة نحو توازن مُراقب.

العوامل الأخلاقية والعوامل الإيجابية .. هي مجموعتين من العوامل التي تؤثر على تسرسب مواليد جديدة محدثة زيادة متضخمة ، يقصد مالتوس بالعوامل الأخلاقية الأليات الذاتية التي يجب على الإنسان أن يراعيها في حياته، مثل تنظيم النسل أو تحديده الامتناع عن الزواج أو حتى الرهبنة وغيرها من العوامل التي يمكن أن يختارها الإنسان ليقلل الزيادة السكانية. هذه المجموعة تحتاج إلى وعي ذاتي وثقافة لا تتوفر -على الأغلب- في أكثر الناس. لذلك لا يرى مالتوس لوقوع العوامل الإيجابية من مفر، يمكن أيضاً أن نسميها (جبرية) هي الحروب والأمراض والمجاعات والقحط وخلافه، كل وسيلة (مصيبة) تؤدي بمستوى الزيادة السكانية إلى الانخفاض أو التوقف.





   نشر في 27 مارس 2020 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا