المكان : مكان ما على كوكب الأرض
الزمان : منتصف الليل الأخير
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته سيادة الوالي أدام الله كرسيك ، و حفظكم من شر بلايا بطنكم أما بعد ،
قررت أن أكتب لكم اليوم عسى أن تصلكم رسالتي هذه و أنتم في أتم الرفاهية سيدنا ، و أعتذر سلفا على ركاكة خطي ، فأنا كما تعلم أو لا تعلم على الأرجح ، رجل معمر تحيط بي التجاعيد و الترهلات ، و التشققات ، غير أني لا زلت ثابثا ، أقاوم تعرية الأزمنة المحيطة ، لذلك لا تنزعج ، فقوتي كل قوتي تكمن في ضعفي ، و ضعفي يكمن في قلوب من يستقوون بغيري علي !
اعذرني على الإطالة ، و اعذرني على الفلسفة التي تكمن في جملتي الأخيرة ، فمع مرور السنين ، تعلمت فلسفات جديدة لمخاطبة الولاة ، فعذرا عذرا إذا شغلني كلامي عن التعريف بنفسي ينادونني القدس ، أبلغ من العمر عتيا ، ألاف الأعوام ، و في رواية ينادونني بالأقصى ، و هي كلمة لن يعيها فهمكم الشريف ، غير أنها تأخذ في كل زمان معنى آخر ، مغاير تماما عن الذي قبله ، و في هذا الزمان ، و اعتمادا على فهمكم الجليل ، أعتقد أن الكلمة تعني ، أنني رجل أقصى ، و هي تعني في قاموس الزمان الذي نعيشه أنني الرجل البعيد عن قلوب أمثالك سيدي الوالي ! رجل مهمل في ثنايا قبة و صخرة ، و جدار للبكاء ، غير أن لدي اسما آخر أكثر إثارة في بطاقة تعريفي العبرية ، فكما لا يخفى عليك ، لم أستطع أن أعيش بدون بطاقة هوية ، فاستخرج لي على مقاسي بطاقة عبرية ، دون فيها اسمي على الشكل التالي
الإسم الكامل : هيكل شولومون
السن : آلاف السنين
الوظيفة : ممتهن
العنوان : من النيل إلى الفرات
و إني أعلمكم أنهم يصرفون لي معاشا يوميا أعيش عليه منعما ، بالإضافة إلى الزيارات المتكررة لبعض العجائز هنا ، أصحاب الشعور الطويلة السوداء ، يزورونني لنلهو معا ، و لنتحدث بعض الشيء لكي نقتل فراغ الوقت!قد تستغرب السبب الذي جعلني أكتب إليك في هذه الساعة من الليل ، لا تجزع ! فلقد أرسلت مثل رسالتي هذه إلى زملائك في جميع الأقطار التي تدين بدين الأمين ! لا أروم أن أزعج نومكم الهادئ الذي تغطون فيه منذ مئات السنين ، بل كتبت لأجل الكتابة فقط ، فلتتحملني أعينكم النعسانة شيئا من الزمان فلن أطيل أكثر مما طال علي زمن الإهانة ، تلك المهنة التي أصبحت أجيدها جيدا ، حتى إذا آويت إلى فرشي المرصع بكل ما هو جميل أتذكركم جميعا ، و أتذكر أنك لا تنعمون بما به أنا الآن أنعم .
الجو في هذا المكان الذي أعيش فيه رفقة أبنائي و أحفادي جميل جدا ، أنعم فيه بالهدوء و السكينة ، إلى جانب المرتب الضخم الذي يصلني كل يوم من طرف الممتهن الذي أشتغل عنده أنا و أصحابي ، فنحن يا سيادة الوالي لا تصلنا مرتباتنا كل شهر كما هو الحال معكم ، بل نحصل عليها كما نشاء وقتما نشاء و أينما نشاء ! قبل ساعات قليلة فقط ، زففنا شابا من قبيلتنا هنا ، زففناه إلى الأرض ، و أهلنا عليه بعض الأتربة ، و راح في نومة خفيفة ، كنومة العروس ليلة العرس ، و كتبنا على ذلك المكان : منزل فلان بن فلان ، فهذه هي البيوت و الشقق المفروشة التي نقطن ، بعضها منعم جدا ، و قد يصل التنعم فيها حد النظر ، و المسك و العنبر ، غير أننا قبل أن نسكنها ، لا بد لنا من أن نرويها بسائل أحمر يسري في عروقنا ، لم نعد نذكر اسمه ، و لا أصبحنا نبالي بضياعه من شدة تعودنا عليه و على إعطائه !
منازلنا للأسف لا تتوفر على مصابيح و ثريا كما هو الحال في قصوركم الفخمة ، غير أن نورا يقينيا ينير بعضها ، و هذا ما أعتقده و أوقن به !قبل عام تقريبا ، إذا أسعفتكم ذاكرتكم الشريفة سيدي الوالي ، نظمنا هنا في مدينة السلام واحدا من أكبر احتفالات البشرية في هذا القرن ، زففنا فيه الآلاف من شبابنا و أطفالنا و نسائنا ، في عرس كبير كبير ، حضره العديد من الشخصيات المهمة ، بل و دعونا إليه حتى بعض الحيوانات ، و أولها القردة و الخنازير ، التي أتت و هنأتنا ، و اصطحبت معها هدايا ، و عبارات جميلة ، و مفرقعات ، أدخلت البهجة على قلوب أطفالنا هنا ! قد تستغرب أننا نزف أطفالنا مبكرا ، غير أني أخبرك أن أطفالنا لا يشبهون أطفال سيادتكم فهم يرتقون بسرعة كبيرة عجيبة في سلم الرجولة ، فلا نجد بدا من أن نزفهم إلى عرائسهم ، ليتحملوا قليلا من المسؤولية التي تحملها الأجداد ، فكما تعلم ، أو كما لا تعلم على الأرجح أيضا ، كل فرد في مدينة السلام مدينتي شارك في هذا الإحتفال الكبير ! و لا غرو أنكم شاهدتموه ، فقد حرصنا على نقله في جميع وكالات العالم التلفزيونية ، و دعونا ما استطعنا من الصحفيين ، ليكون احتفالنا أكثر جمالا و بهجة ، و حرصت أنا بنفسي أن يكون البث في قصورك أنت و زملاؤك متواصلا ، بعد أن اعتذرتم الواحد تلو الآخر عن الحضور ، كل حسب اعتذاره ، و صراحة ، قبلتها بصدر رحب ، لأنني وجدتها أعذارا تستحق القبول ، فليس هينا أن تدير الثروات و القصور و النساء و الولدان التي أنتم مسؤولون عليها ، فأرسلت أوامري باعتباري من معمري المدينة ، أن ترسل الدعوات لجنابكم الشريف أن يعينكم على ما ابتلاكم به ، و أن يديم عليكم نعمة الأمن و الأمان و الطمأنينة التي سلبتها و تسلبها منكم كل تلك النعم ! مر العرس الذي دام قرابة الشهر و نصف على أكمل ما يرام ، حتى أن المدعويين أصابتهم التخمة من شدة ما ألقمته بطونهم ، و دقت الطبول و الدفوف ، و زغردت النساء ، و خرج الرجال بالنبابيت و العصي ، فرحا بأولادهم و نسائهم ، و رجالهم ، فلا أخفيك ، أن الزواج و الزفاف في مدينتي يتخد شعارا آخر و هو : الشرف أغلى من الدم ، فجميع من زفوا ، خضعوا قبلا لكشف دقيق ، حول الشرف في قلوبهم و عيونهم ! و عدنا إلى بيوتنا فرحين ، نمسح من على جباهنا الأتربة العالقة من جراء بنائنا لبيوت من زففناهم !المهم عندنا أن كل شيء مر في سلام و سعادة و لا أخفيك أمرا ، أننا نعد في كل يوم أشخاصا للزفاف ، فمن زففناهم في العام الماضي ، أنجبوا لنا أطفالا كثر ، هم الآن في طور الإعداد ، لا تستغرب ، فكما قلت لك فأطفالنا ليسوا كأطفالكم ، ليس لأن أطفالكم أقل نضوجا منهم حاشا لله ، فقط لأن أطفالنا يتمردون علينا فنحرجهم و نطردهم إلى مسؤولياتهم الكبيرة ! فأطفال جنابكم ، أطفال لا يعقون آباءهم كما يعقنا أطفالنا !
أتركك الآن لأن موعد عملي قد حان ، و أتى ممتهني من أجل أن يوقع بي عملية المهانة ، ، بالإضافة إلى الحفريات التي أقوم بها تحت منزلي علني أجد كنزا مدفونا أتقوى به في باقي الأيام ، فأنا رجل عجوز ، و أقول لك أخيرا ، دام ظلك و زملائك و دمت لنا حاميا ، و سندا سيدنا الوالي
الإمضاء : هيكل شولومون
ترجمة مهدي يعقوب
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة