مناضلات بالفِـطرة
الجميلات هُــن المناضلات ..
نشر في 19 ديسمبر 2022 وآخر تعديل بتاريخ 23 ديسمبر 2022 .
الأدلة على الأدوار الإنسانية التي لعبتها المرأة المصرية في أوقات الثورات والأزمات الحرجة في تاريخ مصر كثيرة، وتعددت المواقف الشاهدة على الشهامة المتأصلة فيهن، فمن تلك الحكايات ما يُحكى عن حادثة اعتقال الفدائي توفيق عزب، التي يحكيها الكاتب صلاح عيسى في كتابه هوامش المقريزي. حيث كان توفيق عضواً في جماعة اليد السوداء التي تكونت بغرض مقاومة الاحتلال البريطاني عن طريق تنفيذ عمليات اغتيال للموظفين الانجليز، وفي أحد المرات تقرر تنفيذ عملية اغتيال مستر هاتون كبير موظفي السكة الحديد في هذا الوقت. تم اختيار العزب للقيام بالمهمة، وأثناء قيامه بالتنفيذ لمحه رجال الشرطة كما لمحته بائعة فجل كانت تجلس على مقربة من مكان تنفيذ العملية، ولم يكن هناك من وسيلة للإيقاع بالعزب سوى الاستعانة بشهادة تلك السيدة التي قادتها الظروف لمشاهدة الحادث، وقاموا بتنفيذ طابور عرض ووضعوا العزب بعد القبض عليه في وسط مجموعة من الشباب في مثل عمره ولهم نفس قامته وهيئته وجاؤوا ببائعة الفجل حتى تتعرف عليه، لكنها خيّبت أملهم، مما دعاهم للمحاولة معها مرّة بعد مرّة، مرّة بالترغيب وأخرى بالترهيب، وبعد يأسهم منها دلّوها عليه بشكل ضمني وعرضوا عليها آلاف الجنيهات نظير استخراجه من طابور العرض، ولما واجهوها بالعزب مرّة أخرى في طابور عرض جديد لم تبدِ أي دليل على معرفتها بالفاعل. وأكد العزب بعد ذلك أنها في كل مرّة كانت تمر أمامه تثبِّت عيناها في عينيه وتبادله نظرة مطمئنة مشجِّعة لا يلاحظها أحد سواه، تخبره بها أنها رغم إنكارها الذي لن يتزحزح -مهما تكررت محاولات رجال الشرطة-، فهي تعرفه جيداً وتؤيده فيما فعل.
وإذا كان المبدأ واحد لا يتجزأ كما أنه لا يتغير بين شخص بسيط وآخر مثقف، فالدليل على ذلك ما فعلته مناضلة أخرى تدعى دولت فهمي، وكانت ناظرة مدرسة الهلال الأحمر القبطية للبنات، عندما طلبت الشهادة أمام هيئة المحكمة في عشرينيات القرن الماضي، في حضور عبد القادر شحاتة المتهم باغتيال وزير الزراعة وقتها، ونفَت قيامه بالحادث، وأنه كان موجوداً في منزلها يوم حادث مقتل الوزير، فهو لم يكن في مسرح الحادث ولم يرتكبه.
وكان من السلوك المستهجن لدى أبناء مصر من الوطنيين أن يقبل مسؤول مصري التعاون مع الاحتلال الإنجليزي بأن يتولى منصب الوزير أو غير ذلك من المناصب الكبرى، لأن ذلك يعد تطبيعاً مع المحتل، ولكن محمد شفيق باشا قبِل المنصب ووضع يده في يد الانجليز، فاستفز ذلك جموع المصريين كما استفذ أعضاء التنظيم السري فقرروا اغتياله، واختاروا لتلك المهمة عضواً نشطاً يعرفونه ويثقون به يدعى عبد القادر شحاتة.
وكان شحاتة هو المتهم الأول والوحيد في تلك الحادثة، وكان وضعه خطيراً. علمت بذلك زميلته في النضال السرِّي دولت، التي لم تره قبل ذلك اليوم إلا مرّة واحدة يوم وقوع الحادث عندما هرب إلى شارع النزهة الذي تقع فيه مدرسة الهلال حيث رأته بالصدفة بالقرب من المدرسة بعد أن أخطأ الهدف ولم يتمكن من إصابة الوزير. فهمت ما حدث بسرعة بديهتها وأخذَت منه المسدس وقامت بإخفائه. وبعد القبض عليه فكرت في طريقة لإنقاذه، فما كان منها إلا أن طلبت الشهادة ودخلت إلى قاعة الاستجواب وشهدت كذباً بما قد يبريء ساحته، مضحية بنفسها وبسمعتها في لحظة فارقة. وخُفف الحكم عليه من المؤبد إلى الحبس أربع سنوات، وخرج عبد القادر بعدها لا يشغله شيء إلا البحث عن دولت. كان ينتوى أن يتقدم إليها بعد الإفراج عنه ليتزوجها. لم يمنحه القدر فرصة لتحقيق الحلم الذي صبر عليه أربع سنوات بين جدران السجن، فبعد جهد مضنٍ من البحث عنها استطاع الوصول إلى مسقط رأسها في محافظة المنيا، وبعد أن أضناه السؤال علم من أهل البلد أنها لقيت حتفها على أيدي أهلها. بعد أن استدرجوها إلى منزل العائلة عندما سمعوا عن اعترافها في المحكمة، وقاموا بقتلها محواً لعارها وتكفيراً عن ذنبها الذي لم ترتكبه.
وحتى يوم خروج عبد القادر لم يكتشف أهلها الحقيقة ولم يشعروا بفداحة ما فعلوا، لكن الانجليز كانوا على عِلم بكل شيء، وحاولوا الضغط عليها بكل الطرق حتى تغير أقوالها، لكنها أصرت على ما قالت مضحية في سبيل نجدة زميلها بكل شيء.
-
زهراء محمد رضامدوِّنة مصرية وكاتبة نصوص أدبية، مهتمة بالرواية والشِعر، صاحبة ديوان "ناي وقانون" ، الصادر بالعامية المصرية عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع.. أحاول خوض تجربة الكتابة الروائية، وأحاول البحث في الكتابة عن ذاتي.. وفي الق ...