في هذا الوقت من الليل، الكثير من الأجساد ترمي نفسها مثقلة على أسرّة كالشوك، ووسائد محشوة بالأحلام الضائعة، تتحول عيونهم إلى غيوم غامقة، وخدودهم إلى قطع من المعدن، تسطك أسنان الإنتظار تفتش عن الغائبين في السقف المعتم، السقف الخالي من أي جدوى، يهيمون ، بعضهم يسلي نفسه بما ملكت يداه، وبعضهم يسلي نفسه بما يجود به خياله، إن الليل خليل الحيارى، يسافر بهم كل يوم إلى محطة قطار الخيبة، يمرون على صور الذاكرة التي يريدون استعادة تفاصيلها، ويحكّون جلود اليأس كلما وجدوا فسحة أمل، ما أن يضع أحدهم رأسه على ما يجده ، تعزف موسيقى الخيال، تبدأ الأفكار والأعمار في سرد ما يحول بينها وبين الواقع، بعضهم يتوجع بطريقة يشفق الله بها عليه، وبعضهم يحاول أن يصمد في وجه رصاص الذاكرة الطائش، إنهم جنود الليل وحراسه..
أتخيل أحيانًا أن النجوم مجرد وهم، وأنها انعكاس شرارات الذين يسهرون مع أنفسهم عنوة ، وهم يحاولون النوم بالطرق الممكنة واللاممكنة، وحدهم من يؤثثون لهذا الهدوء لوحات اليقظة المرّة، وحدهم من يجعلون من الليل قنديلا ومن القمر فتيلاا، وحدهم من يعبدون ماضيهم الأسود، بكل ما فيه من جمال وبكل ما فيه من وجع، ووحدهم من يتكلمون طوال الليل دون أن يطلقوا صوتًا.
كلما تعالت صيحات الليل ، أجد نفسي أقرب إلى الرغبة في حديث حميمي بيني وبين نفسي .. لكنما ثمة عجز فظ غليظ ومريب ، يلف بعفونته فضاء المكان ، فتضربني ساعتها لوعة التفاني البغيضة .. وفي خضم هذا القلق الذي لايفنى ، والسأم الذي لايعترف بالنفاد ، يخيل الي بأني مجرد بقايا صمت مغتصبة من إثم الصراخ القديم .
إن مجرد الاستمرار في كتابتي عن هذا المرض ، يشعرني بالغثيان والملل ، علاوة عن السخرية من نفسي على نحو غير رحيم .. ولا أدري موعد قدوم اللحظة التي أكون فيها صبوراً و يافعاً.
كان بإمكاني رؤية كل هذا والكتابة عنه، وأنا أحاول أن أربط الليل بالآخرين، وأن أتخلص من لعنة وجوده في كوكبي.
ما اسوأ ان يسخر المرء من نفسه ..