تائهين، ضائعين، فاقدين للأمل مفقودين، ميتة أرواحنا، مهدورة حيواتنا، نسير هائمين على وجوهنا في برية الوحوش المفترسة التي لا تعلم للرحمة معنى ولا تعرف للرأفة مثالا، أتينا للدنيا أطفالا بأفواه مبتسمة، وبقلوب منشرحة، أنفسنا محصنة ضد الكذب والنفاق، والحقد والبغضاء، والانتقام والشهوة، والنفاق و القسوة، لا نلقي بالا لمن يضمر لنا الشر، ولا نلاقي السيئة الا بالحسنة البريئة التي لا نعلم غيرها.
ولكن سرعان ما وجدنا أنفسنا في منظومة حيوانية، يدعي أصحابها أنهم بشر عاقلين، فلطالما حدثنا من هم أكبر منا عن كون جنسنا يسمى بشرا وأننا سادة الأرض وأعقل الموجودات بها وأكثرهم تحكما فيها، وأن جنسنا لطيف رحيم طيب القلب رقيق، مؤكدين دوما أن أي من هذه الصفات لا تتوافر في كائن على الارض مثلما تتوافر فينا نحن.
ولكنا سرعان ما كبرنا وأخذنا نفهم حقيقة الأمور من حولنا كما هي لا كما أخبرنا بها الأجيال التي قبلنا، وياليتنا ما عقلنا ولا فهما الحقيقة من حولنا وظللنا على حالنا أطفالا بلهاء نسير في ركب السائرين، ونصدق كذب المستغلين، فما فتئنا ننظر بعين الحقيقة للأمور من حولنا حتى أدركنا مدى ظلاميتها وخبثها وكئابتها، فذلك الجنس الذي حدثونا عنه ما كان الا اكذوبة يضحكون بها علينا، فما من صفة وسموه به الا وجدنا عكسها ألصق به منها، فذلك البشري المتحضر الرحيم ما كان الا وحشا كاسرا سفاكا للدماء، سالبا للكون بهجته وجماله، مفسدا للطبيعة، منهيا لبهائها وحسن اطلالاتها.
وكلما كبرنا وعقلنا وجدنا أنفسنا ورثة لأطنان من الكره والبغضاء الذي كان بين أبائنا وأباء غيرنا من أبناء جيلنا، ووجدنا أنفسنا نحن وهم كارهين لبعضنا لا لشئ الا لعداوات قديمة افتعلها اباؤنا الاوليين، وياليتنا نوقف سيل تلك العداوات وننهيها بل نزيدها اضراما ونغذيها، معتقدين أن في ذلك الخير والسلام والأمن للأنام.
وسرعان ما نجد أنفسنا البريئة استحالت مسوخا بشرية بغيضة، بقلوب أقسى من الصخور، وعقول أجمد من الثليج، منجرفين في أودية مظلمة لطالما تلاحق الاجيال منزلقين في تيار تيهها الدائم، وبدلا من ابتساماتنا العبقة بالحبر والسرور تلك التي عرفناها في صغرنا فإننا في انجرافنا في تيار التيه نبتسم ابتسامة المخابيل الخبيثة.
ولا نحاول أبد أن ننأى بأنفسنا بعيدا عن هذا التيه، وأن نسعى لإحالة صحراء الكره والبغضاء، جنة سلام وأمن واستقرار، لا نحاول ابدا ان نصلح ما افسده السابقيين، وأن نمضي قدما في ان نتجاوز خلافاتهم ولا نجعلها حاضرا في حياتنا، وأن نعيش حياتنا كما نريدها نحن لا كما ارادوها هم، ان نعيش حياة نتقبل فيها بعضنا، ونحترم فيها اختلافاتنا، وأن نعيش في سلام دائم مع أنفسنا وبعضنا وكوننا وخالقنا.
نحن ما زلنا هنا لم نمت، ولم يفت الأوان، فلزاما علينا أن نسعى حثيثا لنمد جسور السلام فيما بيننا وأن نقضي على الحقد والكره والبغضاء في حياتنا، وأن نعيش في جنة الأرض بشرا حقيقيين تملؤ الرأفة قلوبهم ودموع الرحمة اعينهم، لحين رتقينا لجنة السماء بعدا عن تيه الصحراء.