العصفور والدودة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

العصفور والدودة

  نشر في 27 ديسمبر 2021 .

من هو الفنان؟ أو بعبارة أصح، من هو الفنان الحقيقي، بعد أن تمكنت العملات الرديئة من طرد العملة الجيدة من ساحة الفن؟

لا يكفي أن نقول بأنه المشتغل بفن من الفنون العديدة، أو الذي صنفه جمهور من المعجبين ضمن أهل الفن. نحن بحاجة لإعادة تعريف كي نجيد التصنيف، ونسهم ولو بشكل يسير في الحد من الاختناق الذي تسببه فوضى المشهد الفني، حتى باتت بوابة للشغل وامتصاص البطالة، ومضمارا يعتمد على أشياء أخرى غير الحس الفني!

أحببت تشبيها بليغا اعتمده الأستاذ أحمد بهجت وهو يحدثنا عن بحار الحب في التصوف. في فصل من كتابه يدافع الكاتب عن أهل التصوف باعتبارهم من أهل الفن، ويلفت انتباهنا إلى أن أغلبهم من أهل الشعر والأدب والطرب الذي يسمونه "السماع". أما التشبيه فموضوعه العصفور والدودة.

الفرق بين الفنان والإنسان العادي هو تماما كالفرق بين العصفور و الدودة. فالعصفور يحلق بجناحيه في السماء ليستفيد من مساحة رؤية أوسع، فيكون مجال حركته وبحثه عن الطعام رحبا، بينما تلتصق الدودة بالأرض وتكتفي بحفر الطين بحثا عن غذائها، ولا سبيل لها للتحليق فتظل دنياها حبيسة الأنفاق.

الفنان أشبه بالطائر لأنه يمتلك موهبة، والموهبة هي شيء خصه الله تعالى به، فيتجاوز ببصره وإحساسه المدى البسيط، ويُشرف على آفاق وتحولات لا يدركها الإنسان العادي الغارق في طين الحياة اليومية، والسعي الدائم خلف لقمة العيش ولذات الجسد.

بالموهبة يُبدي الفنان إحساسا غير عادي بالقضايا والمشكلات، فتراه قلقا متململا، غير قادر على الثبات والسكون. وفي القرآن الكريم نجد وصفا بليغا لحالة الفنان حين قال تعالى في سورة الشعراء " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون". وهذا الهيام في الأودية، يقول أحمد بهجت، صفة أساسية من صفات الفنان، ومعنى الأودية ليس مقصورا على دلالته الجغرافية، بل يمتد ليشمل مستويات التصوير الفني والإبداع الفكري.

إذن فالمحدد الأساسي للفنان هي قدرته على التعبير عن ذاك القلق، وتصويره لما يطرأ على الروح الشفافة من تقلبات الزمان، وتغير الأحوال، واضطراب العلاقات الإنسانية. وهو تصوير قد يكون بالقلم، أو النغم، أو بشتى أنواع التعبير التي تطورت عبر التاريخ، أو استجدت في الوقت الحاضر كمرآة للإبداع الإنساني.

مادامت الموهبة إذن عطاء ربانيا فلا يمكن تصنيعها وإنتاجها، أو إعادة تقسيمها بالتساوي بين العصافير والديدان، فهذا أمر يستحيل تحققه، وإلا فقد الفن دوره وقيمته، وتاهت رسالته في أزقة الوجود الإنساني. وهذا يعني أن قوافل الفنانين التي تضج بها الساحة اليوم بحاجة إلى غربلة، وانحياز لرسالة الفن التي لا يمكن أن يبعثها الجميع بنفس الصدق والحرارة والإلهام.

الفنان الحقيقي يحرص على المسافة الضمنية بينه وبين الإنسان العادي. لذا يحاول أن يرقى بسلوكه اليومي ليكون مرآة لأدائه الفني. وهي ضمنية لأن الغاية منها ليست إظهار الاستعلاء والغرور تجاه البسطاء، أو الاعتزال في برج عاجي يحول بينه وبين تلمس الانشغالات، ومعاينة ألوان الفجيعة الإنسانية، وإنما الغاية هي الإسهام في تهذيب الحضور الإنساني، والارتقاء بالفعل ورد الفعل في مجال العلاقات الاجتماعية. وهنا تطرح مسألة مضمون الرسالة الفنية، ودور الفن في تخليق المجتمع، ومدّه بأشكال التعبير التي تخفف من مظاهر العنف والوحشية والخراب، وتؤسس للاختلاف الجميل وسعة الصدر، واحترام التعدد والتنوع. وللأسف فنحن نعاين اليوم رسائل فنية تخاطب الدودة وتزكي أفعالها.. رسائل تحرض الإنسان على تغييب الروح والإعلاء من حضور الجسد؛ فتحولت إلى ملصقات تخدم عالم الديدان، وتطلق النار على ما تبقى من عصافير كي لا تحرك في النفوس شوقها للتحليق !



   نشر في 27 ديسمبر 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا