التسامح، السلام الممكن - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

التسامح، السلام الممكن

طور الغرب، بعد حروب دينية طاحنة، مفهوما بئيسا لحسم الصراع الطائفي، الذي نجح به في توحيد الملة المسيحية على مشروع واحد، ونقل الصراعات إلى مستويات أخرى دنيوية الطابع، ألا وهو مفهوم التسامح.

  نشر في 18 يناير 2018 .


      يعرف معجم وبستر لفظة Tolérance باستعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به. وقد ظهرت هذه الكلمة أولا في كتابات الفلاسفة في القرن السابع عشر، زمن الصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية، حيث نادى جان بودان ومونتيني واسبينوزا في البحث اللاهوتي الفلسفي"، وروجر ليمز في رسالتيه "العقيدةالدموية للاضطهاد بسبب الضمير" والعقيدة الأكثر دموية وجون ميلتون وجون لوك في كتابه "رسالة التسامح" وغيرهم؛ بضرورة التسامح بين المخالفين في الرأي والعقيدة، وحق الاجتهاد، واتخاذ العقل ميزانا وحكما.

وهكذا لم تعرف أوروبا المسيحية التسامح الديني والسياسي إلا في القرن السابع عشر ولم تدرك أنه فضيلة إلا في القرن السادس عشر، وبعد أن دمرت الحروب الطائفية العديد من المدن والقرى وقضت على مئات الألوف من سكانها. حين كانت تعتقد بالاقتران الحتمي بين الإيمان والتعصب، إلى أن جاء أمثال فولتير؛ فعكس هذه القاعدة : إنه يمكن للمرء أن يكون مؤمنا وضد التعصب في الوقت نفسه. وقد رسم جون لوك حدودا للتسامح عند أربع عتبات، هي :

-الترويج لمعتقدات وأصول تهدد بنسف المجتمع نفسه

-الترويج للإلحاد

-الأفعال التي تهدف إلى تدمير الدولة أو التعدي على أموال الآخرين

-الولاء للحكام الخارجيين (الخيانة)

كما ناقش لالاند مفهوم التسامح مناقشة مستفيضة، ولم يقبل في النهاية هءا اللفظ إلا على مضض، مبينا أن لفظة "التسامح" تتضمن في لساننا فكرة اللياقة، وأحيانا الشفقة، وأحيانا اللامبالاة، بل وأنها تتضمن الازدراء والتعالي بل والطغيان أيضا. وقد ارتدت كلمة "التسامح" فعلا، معنى دونيا ومهينا للكرامة الإنسانية. وكما قال اميل بوترو : لا أحب كلمة تسامح هذه ، فلنتحدث عن الإحترام والتواد والحب.

لقد كشف الدكتور عصام عبد الله، كيف بدأ الغرب يتلمس آنذاك باستحياء طريقه إلى مفاهيم بديهية عند المسلمين مثل : - البحث عن أرضية مشتركة للأنا والآخر، من أجل الوصول إلى جوهر الحقيقة التي تقف في ثنايا الكليات، وهذا يفتح الباب أمام إمكانية أن أكون على خطأ، والآخر على صواب، وربما من خلال الحوار نصل سويا إلى الحقيقة أو على الأقل نقترب منها. فالإنسان مرهون بالمغايرة والاختلاف وعدم التطابق- . إلى أن وصل العقل الغربي إلى بلورة قبول حق الخطأ كحق من حقوق الإنسان والمواطن كما جاء في إعلان الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية.

إلى أن أصبح مفهوم التسامح كما نفهمه اليوم هو محور مفاهيم الحداثة الغربية، وهو دارج في بنية الحقوق والواجبات للدولة الحديثة، وكان اجتراحه وتأسيسه حاجة وجودية وفلسفية ملحة للخروج بالمجتمعات الغربية من أتون حروب التعصب الديني التي دامت نحو قرن ونصف القرن، من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر، ونشرت الموت والخراب والمجاعات والأوبئة.

وقد بدأ هذا الأمر مع الفقيه جون لوك الذي دعا إلى القضاء على بنية التفكير الأحادي المطلق وروح التعصب الديني المغلق، وإقامة الدين على العقل، وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح تعتمد مبدأ فصل المهام بين الكنيسة ودور الدولة.

فالتسامح يعرف ويتضح بضده وهو التعصب الذي ما زالت ولا تزال تعاني منه الحركات الأصولية ( إسلامية، يهودية، مسيحية، هندوسية، سنهالية، تاميلية، وصربية ونازية جديدة، وغيرها.

وقد فسر العالم برنارد شو، حركة التصحيح هذه في الفكر الغربي بما لدى الحضارة الغربية من القدرة على تجديد نفسها باستمرار وتجاوز أخطائها على الدوام، وهو ما يفسر حيويتها ودوامها. إنها حضارة عضوية. مشيرا إلى وضع كانط "الدين ضمن حدود العقل فقط" . معلقا بأنها ثورة شبيهة بثورة كوبرنيكوس، أدت إلى انهيار الأساس الميتافيزيقي للاهوت -بفضل كانط- كما شرحه هابرماس. فنقد العقل الخالص يصيب بشكل كبير مشروعية المطلق بما هو مجموع مسائل مفروضة على العقل، بيد أنه عاجز عن الإجابة عنها، لأنها تتخطى كلية قدرة العقل البشري. وهذه المسائل تدور حول مفهوم المطلق سواء وصفته بأنه الله أو الدولة، وبذلك استحق كانط لقب "محطم الكل" أي محطم اللاهوت الطبيعي الميتافيزيقي .. وقد توصل الفكر الغربي إلى ما سماه عصام عبد الله "القاعدة الذهبية" كاشفا أن روسيل حين قرأ مقال "فينو" : "الدين والأخلاق في اليابان" علق عليه بقوله : * إن الاحترام الممنوح لكل الاعتقادات في صورة تسامح نادرا ما يكون له نظير في البلدان الأخرى، يعود في المقام الأول إلى استخلاص أقصى حد للفضائل والجمال من كل منهما، لقد قامت الأديان الثلاث المهيمنة بتقسيم مثالي للعمل : تهتم الشنتوية بالحياة الأخلاقية خصوصا، وتحتكر البوذية التطلعات إلى العالم الآخر، ويكملهما دين كونفوشيوس، إذ يساعدهما على تأسيس قانون بوشيدو، أو هذه المجموعة من مبادئ الفروسية الخاصة بالحياة اليومية. إن الياباني المثقف يرى أن كل الأديان متكافئة وأنها كلها تستحق الإحترام *.

وعلى الرغم من أن في الأديان التوحيدية (اليهودية، المسيحية والإسلام) مادة خصبة لتقوية التسامح، فلسوء الحظ لم تكن الممارسة التاريخية كما يعتقد الكثير من الباحثين متسامحة على الدوام.

    وقد دعا الباحث اللاهوتي السويسري الأصل هانس كونج في دراسته القيمة حول : " الأديان العالمية والروح العالمية " إلى البحث عن الهاجس المشترك بين الأديان العالمية لإظهار الروح التي تميز هذه الأديان، من أجل التواصل والتفاهم بين البشر، وكان جل ما أظهره من أمور مشتركة يندرج تحت حقل الأخلاق، خاصة "القاعدة الذهبية" التي سبق أن أشرنا إليها؛ حيث يقول كونفوشيوس : لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يعاملوك به. وفي اليهودية : لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن يضطروا إلى معاملتك به. وفي المسيحية : عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. أما في الإسلام نجد قول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

   لذالك وكما جاء إعلان الأمم المتحدة سنة 1995 كسنة عالمية للتسامح؛ لمكافحة مظاهر التعصب الديني والقومي والرقي وكراهية الأجانب، والإقصاء والإبعاد والتهميش والتمييز ضد الأقليات الوطنية والدينية والعمال والأجانب والمهاجرين واللاجئين، وأفعال العنف ضد حرية الأفراد في إبداء الرأي والتعبير الحر، وكل ما يهدد الديمقراطية والسلام والأمن.

معززا هذا الأخير بمضامين إعلان مبادئ التسامح الصادر عن اليونسكو في السنة نفسها أن التسامح : ليس فقط مجرد التزام أخلاقي وإنما أيضا ضرورة سياسية وقانونية.

ولهذا فإن التسامح فضيلة وممارسة تجعل السلام ممكنا بين الشعوب، باستبدالها الصريح للحرب باللاعنف.




  • مولاي محمد منار
    أستاذ باحث في العلوم القانونية والإجتماعية، استشاري تربوي ونفسي.
   نشر في 18 يناير 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا