حجرة اخى نصر
منذ عرفنا انفسنا ونحن نرى اخى نصر متفرد فى جمال طباعه وجمال لباسه والاهم من ذلك كله المكان الذى يقيم فيه فهو مكان عادى لكنه غير عادى لا تعرف اذا كان يستخدم نوعا من السحر فيعطى به للمكان قيمة مضافة او انه درس فن التحكم فى ابعاد المكان المهم يجعلك تتامل فى اشيائه وكانك تراها لاول مره وكأنها قطع ماسية وضعت بعناية خاصة وفكر عميق يوحيى بعبقريته فى قراءة هندسة المكان وكأنه يرسم على صفحات المكان بالوان اخلاقه صورة ما اروعها واجملها .
كان له دولابا قديم من بقايا "عفشة" ابى يضع فيه كتبه وملابسة واشيائة وكنا نراه تحفة فنية لا ينقصه سوى مكتشف اثرى ليضعه فى متحف تاريخى لابعاد المكان.
وكانت من عادته الاحتفاظ بالصور الفوتوغرافية للاصدقاء والاقارب كما كان يحب الاحتفاظ بالعملة القديمة كل ذلك كان فى دولابه" التحفة الفنية سابقة الذكر".
كنا تى كل هذه الاشياء عندما يعرض تلك الصور القديمة والحديثة لزائر او صديق او عندما نجلس فى جلسة عائلية صافية المزاج فيبهرنا بدرره من رسوماته ومنحوتاته.
الاهم من ذلك كله حجرته وهى مربط الفرس !
كانت حجرته فى الدور الثانى من البيت المكون من طابقين انذاك الذى كانت به حجرتان تطلان على الشارع ،كانت حجرته تقع على اليمن ، بها شباك يطل على الشرفة التى تطل هى الاخرى على الشارع ولم تكن بقية الدور الثانى مجهزه بشكل كاف ، كانت حجرته غير مجهزة او مدهونة بدهان ملون انما تقف على الطوب وعلى الرغم من ذلك كنا ندخلها مع امى او عندما نريد ان ناخذ منه شيء او نعطيه شئء كأنها رسمت على يد فنان عبقرى .
ولانها كانت كالمتحف الفنى فكان لزاما على كل من يدخلها خلاف امى وابى ان يدخلها بتذكرة
تدخلها وكأنك تتأمل الفن الاسلامى بهندسته المتقنه والوانه الزاهية وسحر اشكاله الخلابه تبقى اعيننا تدورمع رؤسنا لا تعرف الى اين تتجه لا تعرف اين تنظر وكأنك فى قصر الحمراء الاندلسى !
انا لا اصدق نفسى احيانا عندما تعود بى الذاكرة كيف كانت هذه الحجرة بهذه الدرجة من الجاذبية وهى واقفة على الطوب الاحمر فقط !
فى تلك الفترة كان اخى نصر فى الثانوية العامة وقتها سمعت خالى صديق عمره يطلب من ابى ان يطلى له الحجرة بالاسمنت فقط دون لون ، استجاب ابى لرغبة اخى فقام بتجهيز نصف الدور الثانى فى هذه الفترة .
كانت الحجرة عندما تفتح وكانها قصر ملكى ونحن نختلس لحظة فتحها فتتسلل عيوننا مسرعا الى التقاط نظرات من الشمال او من ايمين من تلك القصر الذى سيفتح لثوان او لدقائق انت وحظك .
رغم بساطتها وتواضعها الا انها رسمت من الفخامة والعظمة والتعالى والارادة المنبعثة من صاحبها نوعا من الجمال الممزوج بالهيبة والعزة والتحدى لوحة انسانية رائعة.
كان بها "سرير" اريكة ماركة " ايديال" وفى مواجهته منضدة كبيرة تشبه الى حد كبير مكتب فخم من طراز كلاسيكى نادريقبع خلف تلك المنضدة كرسى مزخرف بالون الذهبى الفاخر "وتنجيده " باقمشته الحمراء الزاهية برسومات من العصر الكلاسيكى القديم قد اخذه اخى من حجرة "الصالون" الخاصو باستقبال الضيوف ليكمل به بناء المنظومة.
ورغم ان الحجرة فى تلك الوقت لم يكن بها اى نوع من انواع الارضيات ولكنها كانت قصرا وقسرا .
كانت كل الاشياء فيها تخضع لنظام دكتاتورى يحتم عليها ان ترسم داخل هندسة المكان جزءا من هندسة المكان فكانت الاحذية تبقى متراصة ،والجلباب يبقى قائما وكانه عسكرى وقف يتامل ،ويراقب اى خلل فى هنسة المكان ليفرض عليه عقوبة او بعيده الى مكانه .
الاريكة وما تحتوية ،المنضدة وما عليها ، المفرش ،الاوراق ،الاقلام لا يستطيع احد ان يخرج عن السيطرة الى زمام الفوضى والهرج .
كنت استغل احيانا وقت خروجه من البيت فقد كان اجتماعى جدا يحب الاصدقاء و التعارف وكانوا اصدقاءه يرون فيه ذلك فلا يذهبون الى مكان الا معه لا يسهرون الامعه دائما يسألون عليه فى مشكلة " اللهم احفظنا " فى فرح او اى مناسبة كنت اسغل ذلك بعد ان اتأكد من خروجه ووصوله الى اخر الشارع واقوم باغلاق الباب " بالترباس" حتى اعرف بقدومة اذا عاد مرة اخرى واصعد فرحا الدور العلوى لكى القى نظرة فى تلك الحجرة الملكية .
كانت الاوراق التى يكتب فيها لاسترجاع دروسه مرتبة على المكتب وهى مكتب بخط رائع ونظام فريد وكانها سترسل الى ديوان عام الوزارة للاطلاع والمتابعة او كأ نها اوراق رسالة دكتوراه ستناقش قريباً.
فوق كل ذلك كان حريصا على ان يعرف من دخل الحجرة فى غيابه فكان يضع القلم بطريقة معينة لا ينسها او الورق او اى شيئ يدله على ذلك وبالتأكيد كنت اعرف ذلك فكن حريصا الا اغير موضعا او معلما الا اعيده كما كان !
فى تلك اللحظة وانا بين سطور الحديث عن تلك الحجره وبعدى مضى اكثر من عشرون عاما عما اتحدث عرفت ان تلك اللوحة التى احاول ان ارسم معالمها لم تكن هكذا عبثا انما كانت لوحة ترسم فى طياتها مستقبل وماضى صاحب الحجر .
عفوا
كنا نصعد مع امى ندخل معها فكانت هى الوحيدة التى تستطيع ان تحطم كل تلك الانظمة الديكتاتورية وندخل معها تلك البلاط الملكى .
مرت الايام وذهب اخى نصر الى القاهرة ليكمل دراسة الجامعية ليترك الحجرة الملكية فتؤول لاختى التى جاء عليها الدور فى مرحلة الثانوية العامة وعلى الرغم من التحسينات التى اجريت عليها من دهان واهتمام فالحجرة اصبحت مثلها مثل اى حجرة اخرى فى المنزل !
لم تعد لها جاذبية ولا هيبة او جمال او نظام رغم ان اختى كانت تهتم بها من حيث النظافة فى التى تنظم وترتب البيت كله وتنظف ولكن ما بال هذه الحجرة !
وعلى رحى الايام ودائرة الزمن جاء دورى لاجلس خلف المنضدة الملكية واجلس على كرسيها الاصفر الذهبى الاحمر الاكلاسيكى جاء دورى لا شعر بالفخر والاعتزاز .
دخلت الحجرة !
اصابنى الانبهار والتعجب !!!!!
اين هيبتك ؟
اين هندسة مكانك؟
اين الجمال الخلاب ؟
سرت ابحث فى كل زوياها فى جدرانها تحت الاريكة فى الشرف لم تعد هى الحجره رغم دهنها بالالوان الفاخرة وارضيتها وسقفها الابيض ولكنها لم تعد هى التى كانت واقفة على الطوب وكنت احلم ان اجلس فيها ولو لساعة اليوم عرفت الحقيقة .
تلك هى روح المكان التى رحلت مع اخى يوم رحل الى القاهرة .
-
محمد بركات محمدمدرس البيولوجى ووقاية النبات بمدرسة دشنا الثانوية الزراعية