يُروى عن المتنبي أنه الشاعر الذي مات مشنوقا بحبال شعره، كان ينوي الهروب حين أُشهر في وجهه بيت من قصيدته فاضطر لمواصلة القتال وفاءً لكلماته وحفاظا على شرف حرفه. ترى أين كان أبو الطيب وهو ينظم ذاك البيت الشهير الخيل و الليل و البيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس و القلم؟ هل كان متكئا على فرش بطائنها من استبرق في قصر سيف الدولة، هل كان يجوب إحدى جنائن الشام ويتملى وجوه حسناواتها ؟
ما أسهل ولادة الكلمة وما أثقل مسؤوليتها! هل كان المتنبي يدري وهو يرسل تلك الحروف أمام سيف الدولة بمطلق الفخر والاعتداد أنه سيدفع ضريبتها يوما ما؟ هل كان يعلم أنه سيدافع عن شرفها وشرفه باستماتة ليثبت أنها حقيقة لا تقبل شكا ولا تشكيكا؟ فإن كان يعلم هل كان سيجرؤ على نظمها؟!
أسأل أيضا، كم متنب فينا لم تشنقه كلماته بعد ، ونحن أرباب التدوين وأهل قال ويقول وقول وقيل ، كلنا هنا نزجي الحروف بالسلاسة ذاتها و بالاعتداد نفسه ، نفتخر بليلنا وبيادينا وسيوفنا المزعومة، نحارب نناضل ونشجب ونتوعد ، نصنع أوهاما من ورق، نلقي بحروفنا في هوة من فراغ ، ثم نخلد للوسائد ممنين أنفسنا بنومة هنيئة بعيدا عن عذابات الضمير وانتحاب الكلمات التي أفرغنا قداستها وأفرغنا أنفسنا منها في نزوة بوح عابرة.
المصيبة العظمى أنه لا أحد منا له شجاعة شاعر بعظمة المتنبي ، هو على الأقل عرف كيف يحمل أثقال أشعاره ولبى نداءها ، أما نحن ففي لحظة خوف أو قلق أو ضعف قد نتنكر لكل ما كتبناه ومالم نكتبه هكذا بالجملة، نتخفف منها كأي عبء طارئ ألقي علينا فجأة فلا نعرفه ولا يعرفنا، ندير لها ظهرنا كما لو أننا لم نعش لحظة الخلق تلك التي ولدت فيها ، وهلة الالتقاء الأول، حين ننجبها ثم نهتف بحرقة الفرح هل أنا من كتب هذا؟!
ماذا لو حق لكلماتنا أن تحاكمنا، فبأي جرم ستتبرأ منا، أبجريمة التصنع والتكلف وقت ميلادها؟ أم بخياناتنا المتكررة لقداستها؟ أم بجريمة النفاق والمخاتلة والتناقض؟ وأي هاوية سيلقينا فيها زبانية القرائح إن هم ظفروا بنا بعد حساب عسير، وأي سراط سنهوي منه إن قورن بين كلماتنا وأفعالنا ؟! حتما لن ننجو أبدا، وكبر مقتا أن نكتب مالا نفعل.
للكلمة حرمات يا معشر المدونين والكتاب، وهي توزن بمقدار ماتعنيه في الواقع لا بميزان الجمال والبيان، فمن أراد منكم كبد المعنى فلا يأتي بأمه إلا بميثاق غليظ تتساوى فيه روحه بقداستها، ودماؤه بكرامتها، فالكلمة التي تولد من الروح حقا يستحيل أن تُخذل أو أن تخيب، والحرف الذي ينبت على جبين الصدق لا يمكن بحال أن يهان ولا أن يُسفك سدى.أقيموا أنفسكم حصونا حول كلماتكم و احموها كما تحمى الجوانح ولا تفرطوا فيها فهي شرفكم الأول والأخير.
رفعت الأقلام وجفت الصحف
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
والكلام صدقا يوزن بمقدار ما يعنيه في الواقع لا بميزان الجمال والبيان،...)
فقرة جميلة ونصيحة في محلها ( فمن أراد منكم كبد المعنى فلا يأتي بأمه إلا بميثاق غليظ تتساوى فيه روحه بقداستها، ودماؤه بكرامتها، فالكلمة التي تولد من الروح حقا يستحيل أن تُخذل أو أن تخيب، والحرف الذي ينبت على جبين الصدق لا يمكن بحال أن يهان ولا أن يُسفك سدى.)
ويجب علينا فعلا ان نقيم حصونا حول كلامنا و نحميه كما تحمى الجوانح ولا نفرط فيه فهي شرفنا الأول والأخير.)
تحية تقدير واعتزاز اليكى فاطمة