فاصلة تاريخية - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

فاصلة تاريخية

فاصلة تاريخية

  نشر في 18 نونبر 2021 .

فاصلة تاريخية

بعيدا عن نظريات علم الاجتماع البشري عبر أي حقبة زمنية أو فلسفة اجتهادية , ومهما كانت فكرة المنظّر لها أو ثقافته العلمية أو الدينية , هل من المفترض أن تفسر تلك الدراسات والنظريات تطورات أو تقلبات المجتمعات البشرية بكل مستوياتها المتوقعة وغير المتوقعة ؟

فبدءا من ابن خلدون والذي أطلق عليه اسم علم العمران البشري ووضع فيه أسس علم الاجتماع الحديث , ومرورا بالكثير من العلماء الذين تناولوا السلوك البشري والعمران في دراساتهم وكنظرياتهم وكتبهم أمثال (أوغست كونت-إميل دور كايم-كارل ماركس- رالف لنتون-علي الوردي-غوستاف لوبون وغيرهم كثير) , ولا بد أن نشير أن أوغست كونت هو أول من أطلق مسمى علم الاجتماع على هذا العلم الذي يجمع بين سلوك البشر والعمران والمجتمعات وتغيراتها , وأيضا من المهم أن نتعرف على العلاقة بين أهم ما طرحه ابن خلدون كصاحب الأفكار الأولى وما يمكن أن ترتبط أفكاره وبعصرنا الحالي .

والسؤال المؤرق حقا (على الأقل بالنسبة لي) , هل يمكن أن نتنبأ بالتغيرات المستقبلية خاصة بعد أن فجرت ثورات التواصل الاجتماعي طفرات اجتماعية كانت ستأخذ وقتا طويلا ربما في عهود أولئك المنظرين العظماء ودراساتهم التي بذلوا فيها جزءا كبيرا من أعمارهم , هل يتصورون أن بعض التغيرات الحديثة أصبحت لا تتطلب إلا أشهرا قليلة لتعبث بالعقول والتصرفات البشرية وربما حتى طفرات العمران التي لم يتخيلوها أصبحت جزءا لا يتجزأ من دورة الحياة المجتمعية , فظهور المدن الجديدة وأنواع المنتجعات وتفجر أشكال الملاهي وتقارب الناس بجنسيهم أصبحت لا تنتظر مقدمات لتلك النظريات , وربما أصبحت تساهم في تشكيل التصرفات البشرية وظهور الجديد منها وتقبلها حتى لو خالفت النمط الاجتماعي السائد لوقت طويل , لم يعد هنالك وقت لمراقبة تصرفات الأجيال الجديدة لدراسة تلك التصرفات ووضع النظريات والتنبؤات الممكنة بناء على أحداثها المتوالية بغزارة , أصبح علم الاجتماع في سباق مع تقلبات البشر وأصبح مجبورا على تقبلها دون أن يجد وقتا لدراستها أو دراسة مسبباتها ونتائجها وتطوراتها اللاحقة في الغد القريب .

ابن خلدون أشار إلى أن كل الظواهر الاجتماعية ترتبط مع بعضها البعض , وكل ظاهرة تكون بسبب وهي في ذات الوقت سبب لظاهرة أخرى , ولا فرق بين الظواهر سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية وحتى سكانية أو ديمغرافية , وربما كون الإنسان مدني بطبيعته كما قال ابن خلدون فمن المنطقي أن يكون مجتمعات ويتعايش فيها مع الأخرين , ولا بد من عمران يجمعهم ضمن حدود معينة , وربما تكمن المعضلة الحضارية في مقارنة تلك المجتمعات التي تحدث عنها ابن خلدون والتي تتسم بالبساطة والنمو البطيء , بالنسبة لعصرنا اليوم وخاصة العشر سنوات الأخيرة , فبدأ بالمجتمع البدوي المقتصر على الضروريات الحياتية المهمة من القوت والملبس والمسكن , ثم يتطرق للدول والممالك وكيفية نشوئها وسقوطها , وحتى العصبية التي أعطاها ابن خلدون مكانة مؤثرة في دراسته , حتى أنه ربط الكثير من المتغيرات التاريخية والاجتماعية لهذه العصبية , هل أصبحت مؤثرة في جيل اليوم ؟

هل يمكننا القول أن الذات في السنوات الأخيرة تضخمت على حساب العصبية وأصبحت الأنا مقدمة على كل شيء ؟

من الملاحظ في السنوات الأخيرة أن التغيرات المجتمعية وحتى الثورية منها والتي كسرت كل الحواجز وتعدت بعض الخطوط الحمراء نمت بعيدا عن تأثير العصبية التي كانت يوما ما عند ابن خلدون المحرك الأول للتغيرات المجتمعية ؟

ورغم مظاهر التمسك بالعصبية الواضح في مجادلات الجيل الجديد إلا أن تأثيرها يبدو ضعيفا في تحديد الكثير من المسارات المجتمعية للجيل الجديد , وأصبحت الدولة هي العصبية الأولى والأقوى وربما ستكون المسيطرة مستقبلا على تفكير الأجيال الصاعدة .

الدول تتجه نحو العالمية والتقارب الثقافي وبدأت بعض المؤثرات القديمة شئنا أم أبينا تتوارى على استحياء , ونكاد نشعر أن المشاعر الدينية والأخلاقية تتجه خلف جلباب الدولة , وبغض النظر عن كون التقارب العالمي لقادة الدول هدف منشود لتجمع البشر حول القوانين الموضوعة لتسيير كل الأنظمة المجتمعية نحو قبول الأخر أم لا , من الواضح أن المستقبل يخضع لخطط دمج عالمية ثقافية وحضارية واقتصادية بعيدا عن أي تأثيرات عاطفية من أي نوع كانت .

في المستقبل لن يكون مقبولا من قبل القوة العالمية التي تقود العالم أن تنزوي المجتمعات والدول على هذه الكرة الأرضية بمعزل عن الأخرين , وربما هناك من يعمل لصهر العالم في قبضة واحدة , ولن تستطيع نظريات علم الاجتماع تسمح بالتنبؤ ولا حتى بالاستعداد للمتغيرات مهما كانت , فالمراقب للسياسة العالمية اليوم يدرك أن من يضع الأسباب ومسببات الأسباب وما تؤدي إليه تلك الأسباب لم تعد الطبيعة البشرية , بل خطط ممنهجة ومدروسة يضعها قلة من المتمكنين ليقودوا المجموعات كما يشاؤون , فالأسباب ومسببات الأسباب في زمن ابن خلدون والتي كانت تحرك المجتمع في عشرات السنين , أصبحت اليوم تحركه في أيام معدودات , وحتى نظام الأسرة والذي كان هو الدرع الأقوى والأوحد في ضمان السيطرة على توجهات المجتمع في الماضي ربما سيصبح في مهب الريح مستقبلا .

إذا كانت العصبية ومنذ زمن ابن خلدون تفقد قوتها وتأثيرها في المدن والدول فما بالنا بها اليوم ؟

فالعصبية ربما تستند على عشرات الأشخاص وربما المئات , فلكل قبيلة زعيم وربما لكل جزء من القبيلة زعيم يرجع للزعيم الأكبر وهكذا , ولكن في الدولة تذوب كل تلك الزعامات في شخص الملك أو الرئيس أو الأمير , ومن هنا تسهل القيادة ورسم المستقبل ووضع الدراسات والتوجهات المستقبلية للمجتمع , ومع توفر الآليات اللازمة في الحاضر والمستقبل سيسهل رسم توجهات الأجيال القادمة , وربما سيتحرر الأفراد شيئا فشيئا من قبضة العصبية أو الأسرة ويستندون للقانون العام بدلا من ذلك .

إن تحليلات ابن خلدون عبقرية فعلا لتحول المجتمع من عصبيات لدولة , وطريقة ذوبان العصبية في الدولة بتفصيلات مذهلة .

ربما كان " أوغست كونت " ردد نفس المعنى لسلفه ابن خلدون حين قال (إن كل جزء من النظام الاجتماعي يؤثر على غيره من الأجزاء) , كما أن أوغست أعطى أهمية كبيرة للأسرة وعلى وجه الخصوص للمرأة كمسؤولة أساسية على التنشئة الأخلاقية للجيل , ووضع الأسرة في الوسط بين الفرد والوطن , والوطن هو همزة الوصل بين الأسرة والإنسانية , ووضع أوغست كل القوة بيد السلطة فقط , وعلى الفرد والأسرة الطاعة الكاملة لها .

أخيرا هل نبالغ لو قلنا أن التغيرات المجتمعية القادمة لن تخضع لنظريات ودراسات مسبقة وضعت قبل مئات السنين , والتي وضعت بناء على تغيرات بطيئة من السهل التكهن بها حسب أسبابها ومسبباتها وعدم خضوعها لما نراه اليوم من وسائل تقنية واتصالات تبتلعنا في كل ثانية وتملأ أعيننا وسمعنا وتفكيرنا بمواد وأخلاقيات وتوجهات مختلفة برغبات جامحة من جيل لن يتخيله ابن خلدون أبدا ؟

والحقيقة التي لن يرضى عنها البعض أن خيوط تلك الوسائل التي تقود جيل اليوم وما بعده هي بيد قلة يدركون ما يريدونه ويمتلكون النظريات والقواعد اللازمة للوصول لأهدافهم برغم كل شيء , هي أرض معركة افتراضية وأسلحتها متاحة للجميع , وسيكون الانتصار للأقوى والأذكى , ربما هذه السنوات القليلة تكون فاصلة تاريخية ما قبلها لا يشبه ما بعدها , وربما يظل الإنسان هو الإنسان وسيخضع للأسباب والمسببات مهما سحقته التقنيات الحديثة وما خفي منها مستقبلا .

ولله الأمر من قبل ومن بعد . 


  • 1

   نشر في 18 نونبر 2021 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا