فيلم الصورة المفقودة
الخيال يستعيد الواقع
نشر في 20 ماي 2015 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
السرد بين الوثائقي والتحريك، الواقعي والخيالي:
يمثل فيلم الصورة المفقودة " The Missing Picture " للمخرج " ريثي بانه " فيلماً يجمع بين الوثائقية وفنون التحريك في السينما. حاول فيه صانعه البحث عن الصورة المفقودة للقتلى في مذابح الإبادة الجماعية للشعب الكمبودي تحت حكم الخمير الحمر، ما بين الأعوام 1975، 1979.
لقد استعاض المخرج عن الصورة التي مازالت مفقودة بالعرائس المصنوعة من الصلصال، في محاولة لتعويض النقص في عرض وتقديم صورة حقيقية عما حدث في كمبوديا.
يعتمد السرد الفيلمي هنا على عرائس الصلصال والصوت الخارجي الذي يعلق على المادة الوثائقية التي تقدم أحداث كمبوديا مع نماذج العرائس، ليسرد تجربة حكم الخمير الحمر الشيوعية، منتقداً ثورتهم وإنجازاتها التي تغنوا بها، بأنها كانت مجرد دعاية تستخدم في الأفلام السينمائية، بينما الواقع كان شيئاً آخر.
والجزء الوثائقي في الفيلم نجد أنه استطاع أن يحقق الغرض منه، حيث نقل لنا كمتلقين المعلومة وأضاف لنا المعرفة، كما عبر كذلك عن وجه نظر ورؤية مغايرة لما قدمه الخمير الحمر أنفسهم من مادة توثيقية صورت في عهد حكمهم .فالمادة الوثائقية هنا استخدمت ووظفت بوجهة نظر محددة تعارض وجهة نظر أخرى، أي أن الفيلم هنا قد اعتمد على تلك المادة اعتماداً كبيراً في بنائه الدرامى، حيث مثلت طرفاً في صراع حقيقي ولعبت دوراً مهماً. ليس كما نعهد في بعض الأفلام الوثائقية تكون المادة الوثائقية، فقط نوع من التأكيد على معلومة أو إثباتها، إنما هنا نجدها تلعب دوراً سردياً مهماً.
الذاكرة وصورتها المفقودة:
عن أية صورة يبحث صانع هذا الفيلم، عن صورته، عن صورة بلاده الضائعة كأرواح الملايين التي ضاعت تحت حكم " الخمير الحمر ". عن صورة طفولته البائسة المعذبة، أم عن العائلة المفقودة، التي لم يسع الإنسان إلا أن يستعيدها ويستحضرها بالذكرى، أو بفيلم وثائقي عله يجدها فيه.
تبدو فكرة ارتباط الفقدان بصورة ما، فكرة حاضرة، فدائما تستحضر كلاً منهما الأخرى، تحفز الذكرى أو الفقد الذهن إلى استحضار صورة ما كلما تذكر الإنسان ماضيه وشعر بالحنين لأشياء ما افتقدها محاولا استعادة تفاصيلها، كمن يشكل صورة جديدة، اقرب إلى الذات ليعيد توثيق العالم. ولعل هذا ما نجح فيه الفيلم في تجسيد النماذج البشرية بعرائس الصلصال ليحاكي الواقع، ذلك ما يؤكد على مفارقة أن الفيلم الوثائقي بوسعه أن يعيد توثيق العوالم الواقعية بمادة تشكيلية مختلفة عن المادة البصرية الخام، دون الركون إلى ضرورة الاستعانة بالمادة الأرشيفية المصورة.
البعد السياسي:
يظهر الفيلم من خلال نماذج العرائس مشاهد تصور سنوات الجحيم التي عاشها الشعب الكمبودي خلال فترة حكم (بول بوت)، وارتكب خلالها أبشع جرائم الإبادة البشرية لأسباب فكرية بحتة، كرست فيما بعد للاستبداد والقمع، كوسيلة وحيدة لإخضاع شعب بائس فقير حلم بالغد الأفضل، وصدق ادعاء من اعتبره (المنقذ) فيما توجه إليه به من أفكار تخاطب رغبته في تجاوز وتخطى واقعة السئ إلى العيش الكريم .يستعرض الصوت الخارجي تاريخاً صعباً عاشه في سنوات طفولته، وبقى محفوراً في الذاكرة والوجدان، مستعيداً ما عاناه والديه حيث حكم عليها بالزج القسري في معسكرات " إعادة التأهيل الفكري " ليموتا جوعاً.
الطفل لا يزال حاضراً:
يمثل الصوت الخارجي الموظف سردياً في الفيلم، صوت طفل يمثل المخرج طفلاً. يقدمه كشاهد عفوي لحكي كل ما كان يشعر به، وما كان يسمعه أحياناً من المقربين منه . يسرد بنبرة حزينة، قوية، غير محملة بأفكار مسبقة، يسرد بلغة عذبة، رقيقة، تكاد تكون شعراً. يحافظ على التتابع التاريخي في سرده، ليظهر ما أعلن وما كان يعتبر طموحاً وحلماً لدى الكثيرين ,وما آلت إليه الأحداث فعلياً.
حيث جاء الخمير الحمر حاملين شعارات فكرية براقة، وحماسة اشتراكية مغرية لبناء وطن مثالي فاضل، إلا أن القهر الذي عاناه الشعب الكمبودي فعلياً لم يكن له نظير، فلا زال بعض أبناء الشعب الكمبودي يعانون من الآثار النفسية السيئة لهذا الحكم المستبد. بل أننا نجد مثلاً حكماً يصدر في العام الماضي على إثنان من أهم رجال هذا العصر هما: رئيس دولة كمبوديا الديمقراطية " خيو سامغان "، منظر النظام الإيديولوجي " نوون شيا " ، بالمؤبد، ولعله الحكم الأول من نوعه على قادة في نظام مسؤول عن مقتل ما يقدر بمليوني شخص في كمبوديا في الفترة من 1975: 1979.
فلقد صنعوا تاريخهم الدموي بكفاءة، ويذكر التاريخ أن (بول بوت) كان من أكثر الديكتاتوريين قسوة، نراها أمامنا على الشاشة من خلال فيلم قدمه مخرج هرب من تلك البلاد طفلاً، ليعيش في فرنسا ويدرس السينما، ثم يعود وقد بلغ سنوات الحكمة، ليقدم عملاًَ يعبر عن جزء من تاريخ بلاده في المعاناة بمهارة، استحق عليها جائزة مهرجان كان في دورته السادسة والستين في برنامج (نظرة ما). ليلهم صناع السينما الوثائقية الآخرين في اعتماده على الجماليات التي تعبر عن أفكار نقدية عميقة استطاعت أن تستعيد جزءاً من الصورة المفقودة التي لم تسجل في عهد الخمير الحمر، ولم يوثق فيها مظاهر القتل والوحشية التي مارسوها على الشعب الكمبودي، إمعاناً في طمسها وإخفائها.