دون كيشوت العصر
مقارنة بسيطة بين العالِم الحقيقي وبين الدجّال
نشر في 03 نونبر 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
“أحسست أن الأرض برمّتها اُمّي، وسكانها أصبحوا فجأةً كلّهم أولادي”، هذا ما قالته منذ أسبوعين عالمة الأحياء وطبيبة الأعصاب الكندية Roberta Bondar، مديرة أطباء رواد الفضاء في ناسا لأكثر من عشر سنين، في الذكرى الخامسة والعشرين لتحليقها في مكوك الفضاء ديسكوفري. وأردفت: “انتابني شعورٌ بالمسؤولية والانتماء نحو الأرض وبحبّ عظيم لجميع سكانها”.
علومها قادتها إلى حُبَ العالم من حولها، وحب الأرض بما علاها. فماذا يقول “عالم” الدين؟
“إذا غلب المسلمون، فأحكام الشرع تنص أنّ كلّ ما على الأرض المغلوبة أصبح غنائم وسبايا توزع على المجاهدين. كأن يأخذ كلّ مجاهدٍ خمسة رؤوس. غير أن بعضهم لا يحتاج لكل هذا العدد، فهل يشنقهم؟! وبعض الذنوب كفاراتها عتق رقبة، فمن أين نأتي بها؟!”، هذا ما قاله يوماً قطب السلفية بمصر. وأردف: “مما يتطلب إيجاد منظومة اسمها سوق النخاسة لبيع النساء والرجال والأطفال. يتساوم فيها البائع والمشتري على سعر الرأس”!!!
والآن، إنْ خيّرتك صديقي بين دينها ودينه، فماذا ستختار؟
لا أظنك مضطراً للتفكير مليّاً ولو كنت متديّناً، لسببٍ بسيط: أحدهما يتكلم بحمقٍ وكراهية والاُخرى تتكلم بعمقٍ ومحبة. والدينُ محبّة. لكن لسوء الحظ، أكثر المتكلمين بالكراهية: متديّنون! فهذا يلعن إنساناً عاش قديماً لأنه ظلم إمامه، وذلك يكفّر ملّةً يعيش وسْطها لأنها تخالف مذهبه!
فماذا عن الذين يظهرون الاهتمام بأدق تفاصيل الشرع. من ركعات مكتوبة وعباداتٍ مسنونة ونوافل مطلوبة وأحكام مشروطة وأذكار معدودة وطقوس مقصودة. هذا واجب منصوص وذلك متفق عليه وتلك بدعة سيئة وهذه سنّةٌ حسنة! ثم ما إن يتسنّموا مواقع المسؤولية بخداع البسطاء والساذجين حتى تجدهم أبعد الناس عن تحمّلها وأشدّهم تكالباً على الدنيا ولو كان الثمن ضياع أتباعهم.
اقرأ في هذا الصدد: مذهب الشيطان
خذ حكّام العراق مثلاً، الدّين يقطِر من لحاهم، وملياراتهم تملأ مصارف الغرب من غناهم. خافوا عليها من غضبة المحرومين في بلادهم. وما نجحوا إلا في تشييد القصور لهم وتعمير مزارات يلوذ بها الفقراء. لا صناعة ولا زراعة ولا ثقافة، وقدّموا الشريعة على الدراسة. كل الطرق غير الدين في بلادي معطّلة. حتى نفوس الناس اُفسدت، فآثروا التفرغ لطقوس العبادة أو لحراسة أصحاب السعادة! حتى صار العراق بفضلهم، وفق بعض الإحصاءات منافساً قوياً على عرش أكثر شعوب الأرض تديّناً – اُسوةً بتايلند ونيبال وأوغندا – في الوقت ذاته الذي يتصدر فيه مقياس الفساد بين الأمم!
أعلنت بعض وسائل الإعلام العراقية هذا الخبر، وعبّرت بخيلاء عن “قرب العراقيين من الله”، أما علموا أن تزكية النفس من علامات النفاق؟!
بعض المتدينين – ان لم اقل جلّهم، للأسف – يبني مواقفه من الناس بناءً على قربهم أو بعدهم عن دينه. وليس بناء على وجودهم الإنساني. وأنا أقول: خير لك أن تكون إنساناً بلا دين من أن تكون متديناً بلا إنسانية.
المتديّن حين لا يبحث عن المشتركات مع بني البشر يصبح منافقاً أو محتالاً. لأنه يبحث عمّا يجعله مختلفاً بقناعاته ومعتقداته لا بعلمه وعطائه. يتعامل مع الآخرين بنرجسيةٍ فيتقرّب إلى إبليس بقلبه وهو يلعنه بلسانه. المتديّن المحتال يبحث عن الأعداء، ولو بدا له وهماً كثرة الأصدقاء. يصارع طواحين الهواء، ولو توهّم منازلة خصوم السماء!
المتدين الذي لا يزيدك حبّا بالناس، كلّ الناس دون استثناء، ولا سعياً لخدمتهم ليس سوى دون كيشوت!
نُشر أصلاً في "نافذتي"
https://nafithati.blog/2017/02/19/أرجلُ-دينٍ-هذا،-أم-دون-كيشوت/
-
أقباس فخريلا أكتب للناس بل أكتب لذاتي. أحاول العثور على نفسي حين أكتب. لعلّي ألملم شتاتها المبعثرة فأجمعها، أو عساني أعيد تكويني.