تسمرتْ عيناها على كرةِ القماشِ الممزقةِ, التي تداخلت فيها الألوانُ, مدتْ يدها لتنتشلها من بينِ الركام, يا الله كمْ مضي من السنينِ مذْ خاطت هذه الكرةَ بعدَ أن لفتْ كلَ الجوارب ِ القديمةِ المهترءةِ لتصنعَ هذه الكرةَ لإبنها أحمد قبلَ خمسةَ عشرةَ عاماً ,صمدتْ شهوراً طويلة ًتمسكُ العينَ عن الدمعِ و القلبَ عن البكاءِ, و صبرتْ صبرَ الشاكرين و ألحفتْ النفسَ بالإيمانِ و الدعاء, و لكنَ قطعةَ القماشِ هذهِ زلزت كلَ بنيانِ الصبرِ الرابطِ على قلبِها و إنهالَ الدمعُ كما ينحدرُ الصخُر من علٍ على وجنتيِها.
أتى أحمدُ ذاتَ يومٍ باكياً يريدُ كرةً كالتي مع صاحبِه ياسر ليلعبَ بها مع رفاقِه, أخذته بينَ ذراعيها و هو طفلُها البكرِ ذو الأربعٍ سنواتٍ و قالت له: أتريدُ أن أصنعَ لك واحدةً مثلَ كرةِ جدك ؟ إتسعتْ عيناه فرحاً و قالَ بنبرةٍ عاليةٍ : جدي القوي! فقالت له:نعمْ . إمتلأَ الطفلُ بالسعادةِ و ذهبَ للّعبِ مع أصحابِه ثانيةً . كانَ أبو أحمدٍ يحكي لصغيرهِ كلَ مساءٍ حكاياتِ جدهِ البطلْ الذي هزمَ الأعداءَ و قتلَ السباعَ و نجحَ في كلِ تجارةٍ إشتري و باعَ ,فغدى الجدُ أسطورةَ الصغير و مثلَه الكبير. تذكرتْ كيفَ جمعتْ كلَ الجواربِ التي خاطت ثقوبها مراتٍ و مراتْ و لفتها في دائرةٍ متناسقةٍ و طرزتْ غرزها بالألوانِ و دعتْ الله مع كلِ غرزةٍ أن يسعَده و يفرحَ قلبهَ في دنياه و آخرته, و حينْ حكتْ لزوجهاِ الحكايةَ ضحكَ و قالَ لها : لا تخدعي الصغيرَ و تعديهِ بكرةٍ تصنعُ العجائبَ فيغضبُ منك. ردتْ عليهِ : سيفهم ْ حينَ يأتي الأوان. كبرَ أحمدٌ و ظلَ يلعبُ بكرتهِ المميزة ككرةِ جدهِ سنينَ و سنينْ, و إزدادَ تعلقُه بها فما لعبَ بها يوماً و خسر . سألهُ أبوهُ ذاتَ مرةٍ ساخراً و قدْ بلغَ الثامنةَ عشرة: ألا زلتَ تحتفظُ بها كالطفلِ الصغير؟ نظرَ أحمدٌ الى أمهِ , و اقتربَ منها و حملَ يدهَا بعنايةٍ و هدوءٍ و خشوعْ, و قبلهما و الدمعُ يملأُ عنيهِ و قالَ: لقدْ خاطتها أمي بكلِ ما في قلبِها من حبٍ, و الله إنّي لأحسُ بدعواتها لي كلما احتضنتْ يدايَ هذه الكرةْ .
تنقلتْ عينيها تمسحُ المشهدَ من حولِها ,تهدمتْ جدرانُ بيتٍ كان يوماً بأربعِ غرفٍ و حمامٍ و مطبخٍ و حديقةٍ صغيرةٍ لطالما زرعتها بالنعناعِ و الريحان و شربتْ القهوةَ مع أبو أحمد في الصباحاتِ الباكرةِ تحتَ شجرةِ الليمونِ الدائمةِ الخضرة . لم يبقِ القصفُ الغاشمُ علي غزةَ من بيتها الا غرفةً واحدةً هي ما تبقى من البيتِ . و لم يعدْ يؤنسها و صغيرتيها سوى الألمِ و الحسرةِ و بردِ الشتاء . رحلَ كلُ من أتوا للعزاءِ و قالوا لها: إصبري زوجةُ الشهيدِ ... اصبري أمُ الشهيد ، فأنت اليومَ في عيدٍ ... و تحسدُك من في السمواتِ من حورٍ غيد. طافت في البيتِ تنشدُ العونَ و تنتطرُ من يدخلُ من بابِ الصفيح ِالذي يقيّها و طفلتيِها من العواصفِ و الريح,.. منْ يزرعْ على شفتيها بسمةً .. من يحتضنها و من يدفيْء قلبها من الفقرِ و الفراق ... لعله لجرحها النازفِ يريح.
نظرتْ إلى صغيّرتيها اللتينِ إزرقتْ شَفتيهما و تشققتْ يديّهما من البرد.و عصرتْ الأسئلةُ فؤادَها .. أينَ منْ كانوا هنا يملؤن المكانَ فرحاً و دفئاً ؟ أين منْ يكفلْ الأيتام؟ من يسترُ أهلَ الشهداءِ في الصيفِ و في الشتاء؟ أهمْ منْ يتازعون الألقابَ ؟ أمّن يتجاذبون الفشلَ و الوعودَ الحمقاء؟ زرعَ العدوُ فينا الحسرةَ و الفقرَ و القهرَ و تركنا بعضَ أشلاء .. عصرتْ الكرةَ بكلِِ ما في قلبها منْ ألمٍ فتشنجتْ أصابعُها التي قطرَ منها الماءُ الآسنُ , و إنطلقتْ من شفتيِها صرخةٌ جفلتْ من شدِتها الصغيرتان , و لكنَ دموعَ الوجعِ الحارةِ طمأنتْ قلبَ الصغيريتين حينَ إحتضنتهُما الى صدرِها و أجهشتْ بالبكاء.
-
راوية واديكاتبة و رسامة فلسطينية .مدونتها الخاصة علي الإنترنت Rawyaart : (https://rawyaart.com) متفرغة للكتابة و الرسم في الوقت الحالي.
التعليقات
بالتوفيق و في إنتظار إبداعاتك القادمة .