ما من شيء ثمين إلا و كان الكتاب أثمن منه ، و ما من جليس كريم إلا و كان الكتاب أكرم منه ، و ما من أمة ناهضة إلا وكانت تحمل في أحد أيديها عقلا راجحا ، و في اليد الأخرى كتابا نافعا ، ما من أمة انحطت و تخلفت إلا و أسقطت من أيديها الكتاب و العقل ، و ربما عوضتهما بالسيف و الخرافة . يعد الكتاب شهادة على الحياة البشرية ، فبانعدامه تسقط بشرية الإنسان فيصير كغيره من الكائنات الحية درجةً و نوعاً .
يفيد "وول ديورنت" أن أول المكتبات في التاريخ تأسست في الشرق الأدنى أي في سومر و بابل ، أما العرب فلم يهتموا بالثقافة في تاريخهم القديم ، كما أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ و ليس التدوين ، غير أنه ما إن انصرم قرن و نصف على بعثة النبي محمد ، و ما إن آل الحكم إلى العباسيين حتى بدأت أولى بوادر الإهتمام بالثقافة و الفكر و التدوين ، و في هذه الفترة تم تأسيس "بيت الحكمة" و "خزانة المنصور" و "خزانة المتعضد بالله" ، فضلا عن المكتبات التي أنشأها المسلمون في الأندلس ، غير أن ذلك لم يأتي إلا متأخرا ، أي بعد نضج المسلمين في التعامل مع ثقافة الآخر ، أي ثقافة البلدان التي فتحوها . غير أن مرحلة ما قبل حصول هذا الوعي للمسلمين ، تميزت بجرائم في حق ثقافة و ذاكرة باقي الشعوب التي دخلوا عليها فاتحين .
كانت بلاد فارس تزخر بحركة ثقافية و فكرية عظيمة جدا ، كما انبعثت فيها حضارات عريقة ، إذ كانت هذه البلاد تتوفر على مكتبات تظم من الكتب النفيس و الناذر ، في مصنفات الفلسفة و الطب و الهندسة و الفلك و غيرها من العلوم . غير أن المسلمين ما إن استوثق لهم الأمر و تحققت لهم الغلبة على أهل الدار ، حتى اصطدموا بهذه المكتبات ، فأشكل عليهم الأمر ، إلا أن يعرضوه على الخليفة عمر ابن الخطاب ، فبعث له "سعد ابن أبي وقاس" ماذا نفعل بهذه الكتب يا أمير المؤمنين ؟ فجاء جواب عمر كالتالي: "إن يكن فيها من هدي ، فقد هدانا الله إلى ما هو أهدى منه ، و إن يكن ضلال؟ فقد كفانا الله تعالى شره ، فاطرحوها في النهر ، فطرحوها في الماء فذهبت علوم الفرس" (مقدمة ابن خلدون، ص373) . هكذا أتلف المسلمون في دقائق أغلى و أثمن الكتب ، و أفسدوا أرقى المكتبات التي كانت موجودة وقتئذ في بلاد فارس، و أضاعوا عن أنفسهم و عن غيرهم فرصة التعلم و الدراسة على حكمة و علوم الأوائل.
أما في مصر ، فهي الأخرى أصابت من الحضارات ما هو أعرق و أفخم من غيرها ، كما كانت فيها أعظم مدينة علمية عرفها العصر الوسيط ، و هي مدينة "الإسكندرية" التي كانت تحتوي بين أسوارها علماء من طينة "إيراثوستينوس" ، أول من حسب محيط كوكب الأرض في تاريخ البشرية ، و من أوائل ممن أقاموا دلائل عقلية على كروية الأرض ، ثم "أفلاطون" و "أفلوطين" الفيلسوفين ، "إقليدس" أشهر علماء الرياضيات و المنطق في التاريخ ، و "باطليموس" صاحب كتاب الماجسطي ، و "هيباتيا" عالمة الرياضيات و الفلك ، و غيرهم من لآلىء الفكر و العلم في التاريخ ، حيث كانت تجمع كتبهم و مصنفاتهم في "مكتبة الإسكندرية" ، التي كانت آنذاك أعظم مركز علمي فوق كوكب الأرض .
و كغيرها من البلاد القريبة من غزية العرب ، تعرضت مصر و الإسكندرية للغزو العربي فدخلها المسلمون فاتحين ، و ما كان منهم كذلك إلا أن يستفتوا الخليفة عمر في شأن المكتبة العظيمة التي وجدوها في الإسكندرية ، أيبقون عليها أم يعدموها ؟ إذ يذكر المؤرخ العربي المسلم "المقريزي" في كتابه "المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار"ج1ص159 ، و أكد الخبر من بعده المؤرخ "جورجي زيدان" في الجزء الثالث من كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي" ، أما الخبر فمفاده أن عمر ابن الخطاب أجاب عمرو بن العاص ، بأن يتقدم إلى المكتبة و يحرقها و يتلف ما فيها من كتب و مخطوطات ، وذلك ما حصل ، حيث كانت تظم هذه المكتبة أكثر من 700.000 مجلد في مختلف ألوان و أنواع المعرفة البشرية ساعتئد . و بذلك أقدم المسلمين على واحدة من أبشع الجرائم الثقافية في التاريخ ، إذ ارتدت الإسكندرية إلى مدينة طقوس و أساطير ، بعد أن كانت أعظم منارة للعلم و المعرفة قبل دخول العرب إليها .
و دائما في مصر ، فقد كانت في القاهرة أحد أهم المكتبات الموجودة آنذاك ، و هي مكتبة "القصر الكبير" التي أسسها "الحاكم بأمر الله الفاطمي" ، حيث كانت تظم 1.600.000 مجلد وكان الدخول إليها والاستنساخ و الترجمة مجاناً ، غير أنها تعرضت إلى النهب و السلب والتلف والضياع إثر الخلاف الذي نشب بين المسلمين من الجنود السودانيين والأتراك ، إذ أُحرق الكثير من محتوياتها ، وهناك من يذكر أن بعضهم قد "جعل من جلودها نعالاً له" ، و ما تبقى منها أجهز عليه حرقاً "صلاح الدين الأيوبي" يوم دخل القاهرة ، ثم و بسبب انتشار القحط و المجاعة في مصر في عامي 1348-1349م، راح بعضهم يعرض مجلداً كاملاً للمقايضة على رغيف خبز . هكذا انضافت مكتبة القصر الكبير الفاطمية إلى جانب مكتبة الإسكندرية في قائمة المكتبات النفيسة التي دمرها و أحرقها المسلمون. (زهراء حسن ، حرق الكتب في التاريخ الإسلامي ، ص286-288).
أما في المغرب ، ثم حرق "مكتبة الغزالي" سنة 500هـ من طرف "يوسف ابن تاشفين" نظرا لاحتوائها على مصنفات علم الكلام ، و لنفس السبب أحرق السلطان محمود بن سبكتكين مكتبة مدينة الري سنة 384هـ ، ثم إحراق مكتبة دار العلم للفقيه الشيعي "أبا عبد الله محمد بن نعمان" ، نظرا لإحتوائها على نسخة من قرآن عبد الله ابن مسعود الذي يختلف عن نسخ قرآن عثمان ابن عفان ، ثم حرق المسلمون مرتين مكتبة الطوسي في بغداد التي أسسها "سابور ابن أردشير" ، نظرا لاحتوائها على كتب المبتدعة ، كما ثم إحراق "مكتبة قرطبة" في الأندلس التي أسسها المستنصر بالله الأموي ، إذ ثم عزل كتب الطب و الفقه و ما تبقى من علوم المنطق و الفلسفة و الفلك حصل إحراق جزء منه ، و رمي الجزء الآخر في آبار القصر ، (زهراء حسن ، ص284).
من جانب الكتاب فلاسفةً و علماء فهم أيضا أداقوا عذابات الإضطهاد ، إذ شهد "عبد السلام الحفيد الأكبر للإمام ابن حنبل" حرق مكتبته الخاصة بأمر قضائي من الفقهاء ، بعد أن وجدوا في مكتبته مؤلفات أريسطو و رسائل إخوان الصفا ، إلى جانب بعض الكتب في الفلك و التنجيم ، ذلك ما جعل الفقهاء يحكمون عليه بالزندقة ، و لإذلاله نزعوا عمامته عن رأسه فداست عليها العامة تحقيرا له (أمير علي بيود، الإسلام والعلم، ص219). ثم من بعده حرض الفقهاء الخليفة على "الكندي" أول فيلسوف عربي ، فأمر بحرق مكتبته ، بل ثم الإتيان به إلى أحد ساحات بغداد و قد طعن في السن و بلغ من العمر 60سنة ، فثم جلده 50 جلدة أمام عوام الناس (أمير علي بيود،ص235)، أما في قرطبة فقد ثم إدلال الشارح "أبو الوليد ابن رشد" ، حيث ثم صده عن الصلاة في المسجد ، نظرا لتكفيره من طرف الفقهاء و وصفه بالزنديق ، كما أمر "الخليفة المنصور" بحرق كتبه في باحة المسجد الأعظم لقرطبة و نفي ابن رشد خارج المدينة .(عابد الجابري،المثقفون في الحضارة العربية، ص 145-146) .
هكذا إذن فإن المسلمين تاريخيا ، انتزعتهم نزعة تدمير المعرفة إذا ظهر منها ما يخالف الدين ، و لا نقول أن هذه النزعة خف أوارها ، بل لا زال حاميا وطيسها إلى يوم الناس هذا ، فإلى متى هذا التدمير !