أن تكون متعبا جدا. إلى الحد الذي لا تستطيع معه أن تكمل حديثا بدأته. أن تكون متعبا لدرجة لا تأبه فيها للأشياء التي تحدث حولك، متعبا من أن تجيل النظر يمينا أو شمالا، متعبا من المناظر من حولك و الوجوه من حولك. أن تكون متعبا للحد الذي تنام و تستيقظ فيه عشر مرات في اليوم دون أن تسترجع عافيتك، لدرجة لا تشعر فيها بطعم الأشياء في فمك، لدرجة لا تستطيع فيها أن تجيب عن رسالة نصية وصلتك أو مكالمة هاتفية من أقرب من تحب. أن تكون متعبا. تخيط قطع روحك الممزقة لعلها تعود قطعة ثوب واحدة، تخيط الأمل في الأزقة التي تمر منها و أنت أكثر فاقديه، و تلقي السلام على المارة في نفسك لأن الكلمات من كثرة التعب لا تخرج. أن تكون متعبا من أكثر من أحببتهم لأنهم في لحظة ما خذلوك، متعبا أن تفتح الصفحات الجديدة، لأنك متعب مما سيأتي، متعبا أكثر أن تمزق تلك القديمة لأنك لا تزال في وقع الصدمة منها. أن تكون متعبا من أفكارك و متعبا من أحاسيسك و متعبا من لائحة أصدقائك و متعبا من اختلافك و متعبا من ماضيك و متعبا من التخطيط للمستقبل. أن تكون متعبا من وقع كلمة ظلت تتردد في نفسك، متعبا من جرح فتحه في قلبك من ألقوك بإصرار في بئر يوسف ثم اختفوا. متعبا من صمتك، متعبا من الإشارات، متعبا من الأحلام، متعبا من كلمة حضارة، متعبا مما ينشره الجميع في وسائل التواصل، متعبا من التفاهة، متعبا من أن تبحث في خزانة ملابسك عن قطعة جميلة، متعبا أن تظهر بكامل أناقتك أمام الغرباء، و متعبا أكثر أن تلبي دعوة لحفل. أن تكون متعبا مما يقع في العالم، متعبا مما يقع في نفسك. متعبا من صوت التلفاز و صوت طفل الجيران حين يبدأ في الصراخ، ومن صوت السياسيين حين يتحدثون عن الإصلاح. أن تكون متعبا، تنزوي في ركن لوحدك و تفكر في أسباب النجاة، تفكر كيف توقف الزمن، و تستغل اللحظة الراهنة، كيف تمسكها قبل أن تنفلت و كل أسباب التعب تلتف بك. صورتك في المرآة لم تعد تعرف فيها من أنت، و صور العابرين في خيالك أسقطتهم الحياة دفعة واحدة من القلب فتلاشت ملامحهم من الذاكرة. أن تكون متعبا معناه، أنك تعرف عاداتك السيئة حق المعرفة، مقرف من كل العادات المتخلفة، من نظرات الناس اليك حين تكون على غير ما اعتادوه، معناه، أن تكون متعبا من كثرة الجري لأن الطريق بات أطول مما خيل اليك. متعبا من فشلك في الوصول الى شيء أردته لأنه أحبطك، و متعبا من نجاحك في الوصول، لأنه لم يأت بالسهولة التي ظننته بها. متعبا من أرقك، من كثرة تفكيرك، متعبا من يأسك لأن روحك استنزفت في الأماكن الخطأ، متعبا من قلبك لأن الشغف قد نضب في أكثر أوقاتك احتياجا اليه، فصار الفؤاد غائما تغلبه اللوعة و الفراغ. أن تكون متعبا من تفهمك، من حكمتك، من تقديمك للنصائح، ممن يقدمونها، من أكل الكتب، من الكلمات التحفيزية، من الإيجابية الزائدة، ممن يسممك بفكرة سلبية، من تبريرك للتصرفات، من قبولك لاعتذارات لم يتعب أصحابها في تقديمها فسامحتهم نيابة عنهم، من خطئك في حق الآخرين أيضا، من صد الأبواب في وجوههم. متعبا من فكرة أن تكون جرحا في قلب من أحبك، صفعة قاسية، ذكراه الحزينة. أن تكون متعبا معناه أن تكون متعبا من كونك على صواب، متعبا من الدفاع عن حتمية الفكرة الواحدة، و الخيار الواحد، و القرار الواحد، متعبا من ضيق التفكير، من كل أفكارك تراجعها واحدة تلو الأخرى فلا تجد يقينا ما تضحضه بها. أن تكون متعبا من رغبتك في التحكم في الأشياء، في أن توجهها الى ما تستحبه النفس و تمليه و من كون النفس لا تستلذ بشيء في الحياة إلا رغبت بما أكثر، فتغلو بذلك و تحقد و تتشوه. أن تكون متعبا معناه أن تزهد فيما أتى و فيما لم يأت و فيما سيأتي فتسلم بنفس طيبة الأمر كله لله.
أن تعود بعد التعب محبا. محبا للأشياء التي أتعبتك، محبا للطرق التي صنعتك. محبا لأحاسيسك لأنها أنت، محبا للذين كانوا جزءا من ماضيك لأنهم أروك من أين تبدأ منازل التغيير في نفسك. محبا للحياة لأن التوقيت كان مناسبا جدا في كل ما مضى، و لأن الأماكن شحذت روحك، و لأن الضوء فيها اخترق ظلامك، و لأن الأيادي التي أسقطتك، علمتك كيف تدافع عن نفسك، و لأن من رفضوا عفويتك علموك أن تتمسك بها أكثر، و من لم يتحملوا فوضوية قلبك أروك أين تكمن قوتك. و الذين لم يستحملوا أحاديثك الطويلة المجنونة و طريقتك في التعبير و طريقتك في الصمت و طريقتك في الانعزال ثم طريقتك في الرجوع، علموك أن ليست كل الناس على درجة واحدة من الحب. و الذين لم يأخذوا و لو خطوة واحدة إليك علموك أن تأخذ كل الخطوات تجاهك. و الذين أردت بحبك أن تنقذهم من ظلمة الروح فأغرقوك فيها، علموك أن تنقذ نفسك، و أن تكف عن مد يدك لكل من يطلب النجدة! و الذين تقبلوا عيوبك كلها حتى رأوا من عيوبك مزاياك، و رأوا بريق عينيك على أنه شيء ليس عاديا أبدا، و رأوا الكلمات تفيض من يديك، و رأوا مشيتك شيئا يبعث على الغموض و الدهشة، و رأوا استحياءك من عمقك، و قصر حديثك من كثرة حديثك لنفسك، رأوا ما رأوا من قصر المزايا فجملوها، علموك أن كلا يرى حسب طبيعته، و أن النفس الجائعة لا تعرف الحب! و الذي يأتي إليك راغبا في قلبك، لا يتساوى مع من يرغب في قلبك طمعا في رغبته. و أن الجسد الذي يشتعل دون أن تشتعل معه الروح إنما ضل طريقه في الحب.
أن تعود بعد التعب محبا. تحب ما تكره لأنه و ما لا تكرهه في الحب واحد. تحب ما تراه و ما لا تراه لأنهما في الحب واحد، و تحب نفسك و معها كل أسباب الحياة.
نهيلة أفرج
-
Nouhaila Afrejأستاذة و كاتبة مغربية
التعليقات
كلمات رائعة. دام القلم عزيزتي نهيلة