رغبة في رفقة... - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

رغبة في رفقة...

قصة قصيرة

  نشر في 07 أبريل 2021  وآخر تعديل بتاريخ 29 أبريل 2023 .

                                                       -1-

   لستُ معتادا على المقاهي والحانات، أشرب وحيدا عادة، لكني أحسست بأنني في حاجة إلى رفقة.. ليست تلك الرفقة التي يخالها ويطلبها الجميع، وإنما أن أجلس فقط وأشعر بالآخرين من حولي: أسمع أحاديثهم، وأفكّ طلاسم كلامهم، أرقب ملامحهم وتصرفاتهم، وأتصيّد خَرقهم وتفاصيل شخصياتهم، و...، و...، و... رفقة من على مسافة؛ هذه هي الرفقة التي أقصدها وأرنو إليها على نحو عام. كما أنني قرأتُ لزفزاف وبوزفور وبوكوفسكي مؤخّرا، وها أنذا جالس الآن عند المنضدة في إحدى حانات المعاريف أكرَع كؤوس البيرة والكوكتيلات.

بالحانة نادل ونادلة يقتسمان العمل، النّادل أربعيني له ملامح سكير تائب، وهو الساقي؛ يفتح القناني ويملأ الكؤوس. أما الناّدلة فمتوسّطة العمر، غليظة بعض الشيء، وتبدو عليها تقاسيم التّعب والتأفّف؛ تغسل الكؤوس، وتجمع القناني الفارغة وتنظف الموائد بوجهٍ مقطّب وتعابير عابسة.

وخلف البار، وراء النادل صورة للملك؛ محمد السادس، جالساً على كرسيّه وفي خلفيتها علَم المغرب الأحمر المنجّم بالأخضر. رمق أحد السّكارى الصّورة تلك وهو يطلب قنّينتَي "سْبيسْيال" من النّادل، فهرع إلى مائِدته قائلا لصديقه في السّكر وهو يشير إلى الصّورة: " ذاك السيّد ظريف بزاف، الله يعمّرها دار.. الخَوَارْ.. محمد السادس حلوى وأية حلوى...أَتَعرف؟ لم يَكن يريد المُلك، كان سكّيرا وعربيدا مثلنا، عْزيزْ عليه القَرْعة والهَيْصَاتْ، لكن أباه الحسن الثاني ألصَقَ به المُلْك قوة، صَحّة.. كان قاسيا ومتزمّتا ذلك الثاني، أما هذا ف مّااحْ عْليهْ.. لَولاه لما كنّا نسكر الآن، واللَّهْما تْذوقها" ختم كلامه وهو يُلوّح برأسه دائريا دلالة على الاستحالة والتّأكيد.

لم تكن قد أظلمت في الخارج، ولا الحانة قد امتلأَت بعد؛ ذلك أن معظم السُّكارى الاجتماعيين، سُكارى الحانات والمجالس والحلقات هم سُكارى ليليون. والوضع هكذا أفضل. فالامتلاء خانق ومُقلق، فضلا عن الازدحام..

وأنا أُراقب المشهد في الخارج، أشاهد المساء الذي على وشك التّلَيّل وأتأمّله من خلال النوافذ الزجاجية، إذ دُفع الباب ودَلف: أجنبي أبيض، رامبَوي! في منتصف عقده الثالث، أسود الشعر وأمرد الوجه (لا شارب لديه حتى). له شفتان حمراوان وحاجبان رقيقان مُنمّقان، أما عيناه فسَوداوان تُعجِبان، ولو كانتا زرقاوين لَبَدا وجهه كله سخيفا نمطيا.

إنه غلام!! غُلام ويَا له من غلام!... آاهٍ.. أين أنت يا ابن هانئ! كِدت أن أصرخ شِدة لولا أن تمالكت نفسي وحافظت على اتّزاني وطبيعيتي، ثم اصطنعتُ هدوئي رغم ارتجافي الدّاخلي.

تقدّم الغلام، وجلس عند المِنضدة على بعد كرسي مني، ثم طلب كوكتيلا مكسيكيا ومشروبا آخر لم أتبيّنه جيدا، فتبسّمت؛ الأمرَد هذا يحسب نفسه في جزيرة ساحلية. نحن في البيضاء صديقي أو "السّوداء"(Negra) كما يُسميها "الخماري"، على حواف "المعاريف" تحديدا، ولو خرجتَ من الباب وانعطفتَ قليلا مع بعض الأزقّة لأَلفيتَ السّكارى يتبوّلون ويتغوّطون بالزوايا والأركان، وَلَاسْتنشقتَ رائحة القيء والبراز بدل رطوبة البحر المالحة، وروائح الطّحالب المُتعفّنة.

" من أين الصّديق؟" بادَرته بإنجليزيتي الخرقاء قاطعا تردّدي ومتداركا اضطراباتي. التفتَ إلي مبتسما، فلمحتُ بريقا وتألّقا في عينيه. "من إنجلترا" قال، ثم سكب جرعة من الشراب في جوفه وأضاف:" لكنني أعيش هنا منذ أكثر من ثلاث سنوات". كان صوته رقيقا جدا وناعما، لاحَ لي أن فيه شيئاً من "اللَّعْبَة" من خلاله.. آاه.. أين أنت يا ابن هانئ!

رَددتُ له ابتسامته، فبدا وجهي منعكسا في عينيه: لونٌ ما مَا بين البُني والأزرق الداكن، لَحية كثّة لم أقربها لأكثر من شهرين، وفم أزرق قاتم من كثرة التّدخين وشرب الشاي السّاخن..

" لا تبدو كشخص إنجليزي" قلت له "حتى لكنتُك تلك ليست لكنةً مضغوطة جدا، وإن كنت تقسو على بعض الحروف أحيانا دون الأخرى."

" ذلك أنني في الحقيقة من أم فرنسية وأب إنجليزي/ فرنسي. وقد عشت أعواما من طفولتي في فرنسا قبل أن أعي نفسي في إنجلترا.. والآن أنا هنا في المغرب!"

قال عبارته الأخيرة المنفلتة هذه (and now I'm here in Morocco) بغُنج واضح ومرتفع جعل رأس النادل تلتفت تلقائيا باتجاهنا، وجعلني أكثر تأكّدا من أن فيه "اللَّعْبَة".. آااهٍ.. أين أنت يا ابن هانئ؟ ... أين أنت!

بَدت لي ابتسامته مشعّة، وألوان وجهه متناسقة تماما: خدّه الأبيض وفمه الأحمر الفاتح وعيناه السوداوان البراقتان؛ الأبيض والأحمر والأسود.. أيّ عَلم هذا؟ ... عَلم وجهه فقط، وجهه المرَفرف والمُشع في الحانة كمنارة مضيئة وسط لُجّة البحر الأبيض المتوسّط.. هيّمَتني عيناه وأَلهبتني شفتاه.. "موروكو نوت سان فرانسيسكو" كِدت أن أقول له لكنني أحجَمت.

أخذتُ أسأله ويُحدّثني عن إنجلترا والمغرب، عن الأجواء هنا وهناك، وعن الناس والمجتمع وما إلى ذلك.. أخبرني أنه قد سئم من العائلة ومن المناخ هناك، فقَدِم المغرب مع صديق له، لكن هذا الأخير أصابه الضجر، أضنته العزلة والوحدة كما قال له، فعاد إلى وطنه. وظل هو وحيدا بذلك في شقته وسط المعاريف، يلتقي بالأصدقاء بين الحين والآخر، ويرتاد الحانات، ينظم الحفلات والسهرات ويتصرّف... "ليست الوحدة بالأمر الكبير" قال لي.

"نعم" أجبته، ثم استطردت ".. فقط على المرء أن يتصرّف فيها، بها، ومن خلالها، يستَغلّها ويُطوّعها لا أن يُطاوعها.. تماما كالمَرض، فالمرض عامل وحافز من حوافز الإبداع والخروج من المألوف إذا ما تم استغلاله بالشّكل الذي يجب.. الأصحّاء، عامة، يمضون فقط في حياتهم الروتينية، أما المرض فيفتح أعين الشّخص وإدراكه على أمور وأشياء ما كان لِيَلحظها أو يُدركها لو كان صحيحاً معافى منجرفاً في حياته مطاوعاً لها."

اتفق معي على مَضض. ثم ودّعني بعد أن أكمل كأسَه الأخيرة، وإذ ذاك أحسَسْتُ بأنني قد ثَرْثرتُ كثيرا فانتابني شيء من الأسف... وقبل أن يُغادر همس لي: "أنا كريس بالمناسبة" "وأنا محمد" قلت، ثم صافَحني وذهب.

أما أنا فقبعتُ جالساً على كرسيّي عند البار، وطلبتُ كأساً أخرى.. أشربُ البيرة فقط ولا أسكَر إلا نادرا.. أثمَل عادة لوحدي، ودون شراب، أسكَر وما أنا بشارب؛ بالنسيم، وبالأفكار، وبالأحلام والتخيّلات.. لا أعرف كيف، لكنني أثمل حقا، أظلُّ أترنّح في المنزل وفي الشارع تحت وطأة هذه الأشياء... أما الشّراب فهو للشُّرب فقط، للمزاج لا أقل ولا أكثر.

                                                            -2-

لستُ من مرتادي المقاهي والحانات، أشربُ وحيدا عادة.. لكنني قرأتُ لزفزاف وبوزفور وبوكوفسكي وكيرواك مؤخرا. كما أنني التقيتُ بذلك الغلام البارحة: "كريس". ولذلك فأنا جالس هنا مرة أخرى في الحانة بجانب المنضدة أكرَع كؤوس البيرة والكوكتيلات دون أن أسكر.. فقط أشرب، للشرب فقط.. آه تذكّرت، واسمي للأمانة ليس "محمد"، فقط أجبتُ الغلام بذلك البارحة في مقابل "كريس"... ثمة دلالة في هذا التقابل بين "كريس ومحمد"، أليس كذلك! أما اسمي ف ... لا يهم في شيء، فيم يهم وأنا أعبّر عن نفسي بضمير المتكلّم؟.. "أنا" يكفي.

كنتُ مطرق البال، أُفكّر في "كريس"؛ أتخيّل ملمس خده الناعم والناشف كما لوكان مرشوشا بنوع من تلك البودرة الخاصة بجلد الأطفال، أتأمّل غَور عينيه، وأستطعم مذاق شفتيه الكَرزيتين، حين نبهني النادل:

"أ َأَستطيع أن أسألك؟"

كِدت أن أن أقول له تفضل، لكنني توجّستُ من سؤاله، فلم أُجبه.. خِلتُ أنه سيقول لي: " هل أنت أيضا فيك "اللَّعْبَة" في الداخل؟" أَحسست بحدقَتَي عيني تتّسعان، فرفعتُ كأسي إلى فمي، ولم أزد شيئا على ذلك. فقال:

" هل تعرف سي مصطفى.. سي مصطفي صاحب مقهى Rêve Du Jour بشارع سومية؟"

لم أعرف عما يتكلم، فحرّكت رأسي نافيا..

" اسمك محمد أليس كذلك؟"

 لم أُجبه مرة أخرى، بل لم يترك لي الفسحة لذلك حتى:

"سامحني، حسبتك محمّد ابن أخ سي مصطفى" أَردف، ثم انصرف إلى مهامه..

رأيته ما يزال يرمقني بين الفينة والأخرى بارتياب. لكلٍّ شكوكه، خمّنت وانصرفت إلى شكّي:

هل يمكن أن تكون فيَّ "اللَّعْبَة" أنا كذلك.. حقا؟ في داخلي؟ ... لا أظن.. وهل يهم إن ظنَنت أم لم أظن! المهم أنني أُحبّ الفتيات قصيرات الشّعر المتشبّهات بالرّجال؛ تلكنّ اللّائي يحلقن شعر رأسهن عوض تصفيفه فقط، واللاتي يلبسن ملابس الذكور بدل ملابس النساء السّخيفة تلك.. كما أنني أُحبّ أيضا أولئك الفِتيان المُرد الرُّطُب، ناعمي المَلمَس.. أولئك الذين يُشبهون تلك الفتيات قصيرات الشّعر المُتشبّهات بالرّجال.. أيّ متاهة وأي تيه! أنا أُحبّ الجمال اللّاَنَمطي من الأخير، أيّاً كان محلّه وموضوعه وحامله.

لم يَأتِ "كريس" بعد، ولعله لن يأتي. كان بودّي أن يأتي، أن أتأمّله فقط، وأَنعَم بدفء جماله وحضوره بمعية دفء البيرة ولَغَط الشّاربين.. لكن النادل ما يزال يرمقني بارتيابه؛ نظراته تخدشني، تسحب قميصي عني، وتُنغّص علي جلستي هذه.. بمقدوري أن أُوضّح الأمر له، أن أُخبره بأن اسمي ليس محمد، وأني "مَا فياش اللَّعْبَة" وأني أحب الفت... وأني... لكنه قد لا يعتبر قولي هذا إلا تماديا في الكذب والتضليل. كما أنني لم أعد مرتاحا ومغتبطا أكثر بعد الآن.

دَفعتُ الحساب، وتركتُ النّادل مع شكّه ثم غادرتُ الحانة منزعجا ومتضايقا..

 لستُ من عُشّاق المقاهي والحانات على أية حال، أشرب وحيدا عادة.. لكن مرةً مرّة تأتيني "اللَّعْبَة"؛ فأجد نفسي جالسا على كرسي ما بأحد المقاهي أو إحدى الحانات.


  • 1

   نشر في 07 أبريل 2021  وآخر تعديل بتاريخ 29 أبريل 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا