حُروفِي هُنا .. هِيَ حُروفٌ تَختَبِئُ فِي داخِلِ كُثرٍ مثلِي ..
خاصةً في زمنٍ كهذا .. زمنُ الثورات , والأزمات , وبُعدِ المسافات , والهروبِ من الواقع لواقعٍ أفضل ..
زَمَنٌ فُتِحَتْ أبوابُهُ , وسُهِّلت الطُرقُ فيهِ لمن أرادَ الرحيل للبحثِ عن حياةٍ افضل , او عِلمٍ يرقى به , او عَملٍ يَقتَاتُ عليه , أو منزلٍ يؤيه , او حُبٍّ ضائِعٍ يَحلُمُ أن يُنِيرَ لَهُ الدرب , او حُلُمٍ يترُكُ كُلَّ شِيءٍ حَتى يِمسِكَ بِه ..
زَمنٌ اخْتَلَطَتْ فِيْهِ الجِنسِيَات , تَجلِسُ فِي أحَدِ المطاعم فترى طَاولةً شاغِرةً بِعَجَم , وأخرى بِعَرب وغيرهم وغيرهم مِن شَتَّى الأطياف ..
لهجَةٌ واحِدَةٌ طبعاً لا تُغنِيك , وحتّى ثَلاثَ لهجاتٍ قد لا تُغنيك , لُغَةٌ واحِدَةٌ حتماً لا تَكفِيك , وقد لا تَكفيكَ حتّى لُغَتين ..
فَفِي هذا الزمن , يَجبُ عَليكَ أن تُتقِنَ الكثير حتّى تُخالِط كُلَّ الألوان ولا تَقَع فِي فَخٍّ كبير , فَخُ الجَهلِ والخَوفِ والضَياع الذي مَهمَا فَعلت فَسوفَ ينالُكَ فِي مَرحَلةٍ ما مِن حَياتِك مِنهُ ولو القليل ..
حُروفِي هُنا لتحكِي حكايةً اختبأت فِي دَاخلي منذُ الصِّغر ..
حكايةٌ قد تُلَخِّصُ ما تَعجَزُ عن حَصرِهِ الاحصائيات ..
فالكثيرُ هُم مَن وُلِدُوا خارِجَ الوَطن , والكثيرُ هُم مَن وُلِدُوا فِي الوَطن وَوَجَدُوا أنفُسَهُم يَتَنَفَسُونَ هواءً غيرَ هواءه ويعيشُونُ تَحْتَ سماءٍ لا تُشبه سَماءه , فتَركُوا أرضه وبَحثُوا عَن أرضٍ غير أرضه يرسُون فيها على أُمنيةٍ واحدة من شواطئِ أمنيات ..
وأنا مَعَ أوَّل نَفَسٍ يَدخُلُ فِي صَدرِي , وجَدتُ نَفسِي فِي ديارٍ لا تُشبِهُني , وبَعدَ مُضيِّ سَنواتٍ أتنقَلُ فِيها , بدأتُ أعتادُ عَلى وُجُودِي بِها , أُحُبُّها وأُحِبُّ مَن فِيها , ومَعَ أنني وجَدتُ نَفسِي فِي نِعَمٍ تَحُفُّنِي مِن كُلِّ مَكان , لكن ما زالت رُوحِي تُحَلِّق كُلَّ حينٍ بِي لذَاك الوطن الذي لا أذكرُ مِنهُ إلا القَليلَ مِنَ الملامح , تُحَلِّقُ لأهلِ الوَطن وأرضِ الوطن الذي لم أعرف عنهُ سِوى اسمه ..
وما إن بدأتُ أشعُرُ أنِّي فِي وطن ثانٍ يحفَظُنِي ويَرعَانِي ويُّحِبُّنِي من فيه وأُحِبُّهُم ولو اخْتَلفَت عَنهم ألوانِي , حتّى وصَلتُ لسِنٍ أصبَحَ مِنَ الوَاجِبِ عَليَّ أن أحزِمَ أمتِعَتي مِن جديد مِن وطني الثانِي لديارٍ لا أعرفُ حتى لغةَ مَن كَانَ أو مَرَّ بِها ..
فكما قُلتُ زمننا زَمنٌ قد يَكون اختبارُنا فيهِ هَو البَحثُ والبَحثُ عن طريقٍ لتحقيقِ الحلم والعيش بسلام , أصبح المكان حتى لا يُهم مَهما شعرتَ به أنَّك وحيدٌ بينَ الأنام , المهم هو العيش بسلام ..
يقولون عليك أن لا تعتادَ على وجودِ احد , ففجأة تترُكُهُ أو يترُكَك , تحزِمُ أمتعتك أو هُو يحزمها , تجِدُ نفسك في الطَرفِ الآخر مِن الكوكَب الذي يعيش فيه , نَعم شَعرتُ كثيراً بهذا الإحساسِ فِي حياتي , ومع صعوبته ومرارته إلا أني ما زِلتُ أقِفُ دوماً فِي وَجهِ هَذه العبارة , ولم أتَّفق معها يوم , حتّى في لحظات حَزمِ الأمتعة , لَم أندم على قَلبي الذي اتسع لِمَن حَزمُوا أمتعتهم , فَهل أحرِمُ قَلبي والعالم مِن الحُبِّ فقط لخوفِ الرحيل , آمنتُ دوماً أنَّ الرَّحيلَ مكتوب مهما حصل , فهل أعيشُ بلا أحد ولا صديق ولا روحٍ قريبة أتَّكئُ عليها عندما يظلم بِيَ العالم مهما ابتعدت هيَ فقط بالجَسَدِ عني ؟
طبعاً لا , فمنذُ نعومةِ أظافِري قررتُ أن أحتويَّ بقلبِي الكونَ بأسره , أحتوي مَن أحبُونِي بصدقٍ ومنحُونِي الثِّقَةَ والأمان , فمهما بَعدني الزمان , يكفيني دعاءٌ مِن مَن احتَويتُهُم رُغمَ وحْشَةِ الدَّهرِ وبُعدِ المَكان ..
بل آمنت فقط بقولِ الشَّاعر ..
" لَنْ تَستطيعَ سِنينُ البُعْدِ تَمنَعُنا .. إنَّ القُلوبَ بِرَغْمِ البُعدِ تَتَّصِلُ "
ولَرُبَّما أكونُ قد آمنت به , لأني في حياتي آمنت بالرحيل وبُعدِ المسافات عَن مَن تُحِبُّهم العينُ ويعشق قُربَهُم الفؤاد , آمنتُ دوماً أنها مسافاتٌ جَسَديَّةٌ فقط , جغرافيَّةٌ فحسب , لا تَمتِّ للعاطفةِ و لما يَحويِهِ القَلبُ بصِلة ..
وآمنتُ أنْ لا خلودَ ولا قُربَ إلاّ فوقَ السماء , لذلك أيقنتُ أنَّٕ رحلةَ البحثِ عن النُّورِ والهدى والحُلُمِ والسَّلام , هِيَ الواجِبُ على الجميع في هذا الزمان , فمهما عانيتُ مِن صعابٍ وآلآم ومهما انهالت مِن عُيوني الدُّمُوعَ رغماً عني , عزائي أو بعبارةٍ أُخرى مُنَايَ هُو فَرحُ مَن أحِبُّهِم بِي مهما ابْتَعَدْتُ أو ابْتَعَدُوا , عندما أحقِّقُ نجاحاً او أرسُمُ بدايَةَ طريقٍ لنُورٍ وأمان ..
يقولُونَ اُنظُرْ للجَانبِ الممتَلئ مِن الكأس , ولا تَنظِر للجُزءِ الفارع , ونَسَوا أنْ يخْبرُونا أنْ ننظُرَ للكأس نَفسِها التي اتَّسَعت لِكلا الجانبين , وتحمَّلت عَناءَ الجانِبِ الفارغ , وامتصَّتِ الجَانِبَ المُمْتلئ حتّى النهاية , وهكذا يَجِبُ أنْ تكُونُ قلوبنا دوماً ..
كالكأس .. نتحمَّلُ فَراغَ هذهِ الحياة وغربتنا بها وكُلَّ عناءٍ يقِفُ فِي طَريقِنا , ونَستَغِلُّ الجَانبَ المُمتلئ ونَملأُ قُلوبنا حبَّاً نَتَكِئُ عليهِ في لحَظاتِ فراغِنِا ووحدَتِنا ..
أنا فِي لحَظَاتِ الضَعف التّي أشْعُرُ بِها أني لم أعُدْ أُريد الاستمرار في طريقِ البَحث عن حُلْمٍ أو مَسار , وأريدُ العودة لأمانِ أبي وحَنانِ أُمي ودِفْءِ مَنزِلِنا , لم يِخرجنِي منها سِوى لُطفِ ربي , فكُلُّ لَحظَةِ ضَعفٍ كُنتُ وما زِلتُ أمُرُّ بِها , كانَ اللهُ يرسِلُ لِي عِبَاداً أَرَى فِي وُجِوهِهم أشَدَّ درجاتِ الأسى والهم , وعندَها أشعُرِ أني فِي كاملِ قِوتِي عندما أتذكر كُلَّ النِّعَمِ التي رِغْماً عَن كُل شيءٍ مازالت تُحيْطُ بي , تِلكَ اللحظات هي وحدها التي تجعلِني في أشدّ حالات قوتي , نعم هي ليسَت لحظات ضَعف , بل لحظات قوة , الشَّدُ على يَدِ القوة ما إن تحاول أن تُفلِتَني قليلاً , هِيَ لحظَةُ قوة !
وكثيراً ما كُنتُ لا أحتاجُ أيَّ وجهٍ بائِسٍ يُريني كَم أنا قوية , بل رُوْحٌ واحِدَةٌ يرسِلُها اللهُ لك وأنت لا تدري ماذا فعلتَ حتّى يَرزِقُكَ اللهُ بهذِه الرُوْح ، التي بِها تكتفي بِها تَتَقَوَّى وبِها تبقى صامداً في وجهِ لحظاتِ الضَّعفِ وبها تتحَوَّلُ تلك اللحظات لِلَحظاتِ قوة وتتحوَّلُ دموع الأسى لدموعِ فرحٍ وحُبٍّ بقُربِ رُوْحٍ مِنَ السَّماء تَشعر أنَّها بُعِثَتْ , بُعِثَتْ لتَحُطَّ على رُوحِك وتُلقِي عَليها غِطَاءَ دِفءٍ من بَردِ هذا الكون ..
وهَاتانِ الحالتانِ فقط هِيَ مَن تُنجِينَا جميعاً مِن لحظات الضَّعفِ وتُحَّولها دوماً للحظات قوة , وهكذا تَعلمْتُ دوماً أن أفعل , أن أحافِظَ على الرُّوحِ التي تُنجِيني , وأن أتذكَّر نِعَمَ ربي وَأَشكُرَها بيقِيني !
في الغِربَةِ فقط .. تَعرِفِ من يُحبُّكَ بصدق مَن يهتم أنَّك ما زِلتَ بخير , يهتم لأن يعرف أدَّق تفاصيلك , أن يشْعُر بابتسَامتك ما زالت ترتَسِمِ على شفتيك , أن لا ينامَ الليل عندما يشعُر أنَّك لست بخير , في الغربة حتماً ستعرفهم فقط لمجرد أنَّ الأجساد ابتعدت , وأصبح لا يربُطك بهم أيُّ مصالح , لا يربطك بهم سوى الحُبُّ الصادق ..
في الغربة فقط .. تُدرك كم يهمك أن يبقى قَلبُ أمك هادئ ومطمئن , قد تخفي كثيراً عنها ما يحزنك , قد لا تشاركها كالسابق أوجاعك , فقط لأنك تَعلَمُ أنَّها ستتألم اضعاف ألمك , وستشعر أنها بعيدة جداً لتمسَح دمع عينيك , في الغربة فقط .. تدرك أن لا قلب كقلب امك ..
ولا سَندٌ ككتفِ والدك ..
في الغربة فقط .. ستدرِكُ حَجم الوقت وأهميته , سَتُعِدِّ طعامك بنفسك , تغسل ثيابك بنفسك , تُرتِب مكانك بنفسك , تشتري حاجياتك بنفسك , تُدرك أهمية المال وعدم بعثرته هنا وهناك بنفسك .. فقط لأنَّك أصبحت وحدك مسؤول عن نفسك ..
في الغربة فقط .. تكتشف من أنت , ما هي شخصيتك الحقيقة , ماذا تحب وماذا تكره , ماهي محاسنك وما هي عيوبك , فقط لأنك أصبحت وحيداً , لا أحد ينصحك ويوجهك , ستكتشف أنَّ عليكَ أن تعرف أخيراً ما هو الظلامُ وما هو الضياءُ بنفسك ..
في الغربة فقط .. تدرك ما أعظم لغتك , ما مقدار النعمة التي كنت لتعيش بها في وطن يتحدث الجميع به لغتك , تسمع به خطبة الجمعة بلغتك , تتناقش بموضوع ملم ، حتماً مهما بَلغْتَ مِن عِلْمٍ لَن تُعَّبِّرَ عَنهُ بِعُمقٍ وبلاغَةٍ إلاّ بلغتك , كُنتَ ستكرَهُ نفسك عندما كُنت تظُنُ أنَّ حديثك بِلُغَةٍ أعجمية سيجعل منك إنساناً مميزاً , حينها فقط ستعرف قيمة لغتك , وأنْ لا جمال إلاّ بها ولا رُقيَّ إلاّ بِتَحَدُّثِهَا ..
في الغربة فقط .. سَتفهم مَقْصَدَ والدِكَ , عندما أخبرك أنْ لا تثق بأيِّ عابر طريق , ستفهم معنى الصدق والأصدقاء ومعنى الحياة التي تتلون بوجودهم وستدركُ حينها صعوبة العثور عليهم , وسترى كثيراً من الوجوه , وقليل منها من ستستمر برُؤيَتِه , لو استمريت !
في الغربة فقط .. ستصبح ناضج , لأنَّ تَعَلُّمَ الحياة , لا يكمُن إلاّ في خوضها وخوض بُلدانها , الغربة ليست مُوحشة كُليَّاً كما يَظُنُ البعض , فكما ذكرت إن كُنت أنتَ الكأس , فالجانِبُ الممتلئ بك سيحِبُّها , ويعرف أنَّ العالم دفتر , لم تَرى منه إلاّ ورقةً واحدة وأنت قابعٌ في بلد واحد , ولكن ما إن تتركه وتبدأ رحلة البحث عن حلمك أو هدفك أو مهما يكن , رويداً رويداً ستبدأ تكشف أوراق الدفتر والأسرار بين سطوره , وتصبح النابغ في عصرك كلما تعمقت أكثر , وخُضت أكثر وعشت الجانب الفارغ من كأسك أكثر ..
الغربة أصبحت قِصَّتنا جميعاً .. وقليلٌ هم من استطاعوا التعامل معها , وجعلها تبدو أرقَّ مهما بدت قاسية ..
بحسن نية وتوكل , وتحقيق أهدافٍ وتعثر , وعون من الله وتأمل , بعودة للديارة مع كأس ممتلئة كُليَّاً هذه المرة ..
-
Salam Darwish...
التعليقات
فقلت ان "قصتنا واحدة" و هي فعلاً كذلك.
كلماتك عبرت عني، على الرغم ان الكتابة تحرير من أثقال الروح إلا أنني أميل للتقيد في ما يخص هذه المواضيع فأشعر بالألم المضاعف اذا قمت بكتابتها و سطرها و محاولة إيصال هذه المشاعر التي لن يتفهمها إلا أمثالنا. سلمت يداك مبدعتي
بالتوفيق و في إنتظار كتاباتك القادمة .