حين استقبلت أول رسالة منها على الخاص، أحسست أن شاشة محمولي ستنفجر، فتاة في العشرينات، تحكي قصة حب وفراق، كلماتها محترقة تفوح منها رائحة "الشياط " .. في إسهاب حكت.. كلمات وقصائد وأبيات ومشاعر مبعثرة .. لاهثة.. أنهار من دموع –كما تخيلت- حب يتنكر أحيانا ليلبس ثوب الكراهية، وأحيانا قناع الرغبة في الانتقام!
أحسست وأنا أقرأ احتراقاتها واحتضاراتها أنها تعيش نهاية العالم.. لا تجد لأي شيء طعما ولا لونا ولا رائحة.. الأيام متشابهة والساعات تمر رتيبة..
حاولت أن أستزيدها حكيا علي أنجح في رؤية الأشياء بمنظورها ومن منطقتها.. وعل الحمل يصير عليها أخف.. ولكن أي الكلمات يمكن أن أقولها لإنسانة تحس أنها تعيش يوم البعث؟ وأن العالم انتهى بغيابه؟ وأن القيامة قامت؟!
كانت وسط الحكي تكرر السؤال: كيف أنساه؟! فكأنها تبحث عن عصا سحرية تفك بها هذا الارتباط وتستريح!
كنت أمتلك قلبا ومناديل ورقية ..ولم تكن لدي عصا سحرية أحضر بها لبن العصفور الذي تطلبه: النسيان الفوري..
صعب أصدقائي أن تجلس في كرسي الناصح العاقل، خصوصا حين تكون أمام إنسان يحترق، عقله شبه معطل.. وأنت بكامل زينتك العقلية تتبختر أمامه وتقدم إليه نصائحك المتآكلة المتوارثة: "الزمن سيداوي جراحك"
أو "اصبر.. لعل في هذا الأمر خير "
هل من المعقول أن يهرع إليك شخص تحس من خلال حكيه أنه فقد عقله، فتتلقفه بعينين باردتين عاقلتين، وتلبس عباءة لقمان الحكيم وتقول له: "إعقل.. إعقل. ما تحسه عبث وجنون "؟!
ردة فعل مثل هاته تذكرني بنوع من العلاج النفسي اسمه العلاج العقلاني
Psychothérapie émotivo-rationnel
هاته المدرسة من العلاج النفسي تركز على عقلنة الأحداث ومرافقة المريض إلى منطقة التحليل المنطقي.. أجدها مفرطة في برودها ومنطقها وعقلانيتها.
أغمض عيني وأتخيل مراسلتي المسكينة تحكي لأحد هؤلاء المعالجين، دموعها على خديها وقلبها ينزف:
هي:" أنا أحبه.. أحتاجه "
يجيبها المعالج وهو في كامل لياقته العقلية و"إيده في المية " : خطأ.. الجملة خطأ.. أنت تحتاجين الأكسجين، الماء، الطعام لتستمري في الحياة، وليس الأشخاص، أول شيء سنعمل عليه هو إعادة صياغة الكلمات في عقلك.. كلمة احتياج يجب وضعها في سياقها الصحيح"
هي منهارة: “لقد غادرني دكتور! "
هو بنظراته الزجاجية:" هل تعلمين أن الاختيار حق أصيل تمنحه له الحياة.. هو حر ، كما أنك حرة.. تعاستك سببها شعورك الداخلي وليس هو.. هو مجرد عامل خارجي.. وحدك المسؤولة عن كل ما تعيشينه.. و..و.."
وتتوالى الجمل التصحيحية البعيدة عن التفهم، جمل عقلانية تصبح عديمة المعنى حين تتقاسمها مع غريق.. أو مجنون!
إن الإسهال في تقديم النصائح المعلبة والمتآكلة، ولعب دور المفتي و" أبو العريف " يصبح في كثير من الأحيان نوع من العبث والغباء العاطفي.
لا جدوى من كلمات صادرة من عاقل “يديه في الماء" لشخص يعيش جنونا أو احتضارا وكل جسمه في النار!
أن تدخل على مريض تلقى لتوه خبر إصابته بمرض عضال، ولا زال في مرحلة الصعقة والإنكار، وتقول له-وأنت تحسب أنك تحسن صنعا – جملا من قبيل: "المؤمن مصاب "و "إنه ابتلاء سيرفعك الله به درجات "
إذا قلت له ذلك قبل أن يدخل مرحلة الرضا والتقبل فأنت عاطفيا كائن غبي!
أصمت .. ما دام هو لم يبادر بالكلام فإنه غير مهيأ لمواعظك الخارجة عن السياق!
دعه يغرق في صمته وهامشه وحزنه.. ويحس أنك هنا من أجله دون كثير رغي وموعظة و..اقتحام!
أغلى ما يمكن أن تهديه لمحترق داخليا هرع إليك مستنجدا هو أذنيك وقلبك، اصغ وتفهم.. إنه ليس أنت وما يناسبك لا يناسبه.. قده في سلاسة لمزيد من الانكشاف عليك دون جلد.. فوسط حكيه قد تتضح له الصورة ويأتيه الحل الذي يناسب شخصيته وقناعاته.. انتهى دورك !
فوزية لهلال
التعليقات
ولقد صدقت ، لا يحتاج المصدوم في عز ألمه أكثر من قلب دافئ يحتويه ويد تمتد له في لحظة يكون فيها العقل مغيبا بالكامل. .وأذن صاغية لكل ما يتفوه به مهما كان تافها..لا يحتاج أكثر من التواطؤ معه في لحظة الألم التي بلغت ذروتها فكأنك تقتسمه معه مناصفة ..تقول له ضع عنك بعضا من حملك الثقيل ودعني أحمله معك ..لا حاجة له بعقل يحاكمه ويجلده بالعتاب واللوم. .لا حاجة له بدور الحكيم الذي يجعلك تبدو بمنظر المتشفي بدل كونك بلسما لجرح مازال في أوله ينزف .. الحكمة لها وقتها كما تفضلت فوزية ..عندما يهدأ الألم وينقشع ضباب الزيف ..تكون النفس متهيئة لتقبل النصح بكل ثقة ..تلك الثقة التي بنيتها عندما لم تخيب ظن صديق لجأ إليك بكل ضعفه ليستمد منك قوة جرده منها الألم .
جميل ، موفقة.
ثانيا: وحتى لا نتصف بكوننا عاطفيا أغبياء علينا نصمت ولو قليل ما دام هو لم يبادر بالكلام فإنه غير مهيأ لسماع مواعظنا الخارجة عن السياق!
ثالثا: يتحتم علينا أن نحسسه بأننا هنا من أجله دون كثير رغي وموعظة و..اقتحام!ونهب له قلوبنا وأذاننا... نصغ ونفهم لانه حقا ليس مثلنا وما يناسبنا قد لا يناسبه..فقط ندعه يفضفض ويحكى لعل الصورة تتضح له ويأتيه الحل الذي يناسب شخصيته وقناعاته..
الي هنا أتفق معكى كليا في تلك الخطوات العلاجية التى ذكرتها ..
لكن لدي خطوة اخرى مكملة في علاج هذه المشكلة وتتلخص في التالي :
في بعض الاحيان تكون الحلول لاي مشكلة (سواء عاطفية او معنوية أو حتى المادية) .. قاسية نوعا ما وتصيب الشخص حالة من اليأس والقنوط والحزن لفقدان ذلك الحبيب أو يتخيل استحالة الحياة بدون هذا الشخص المرتبط به قلبا وقالبا لكن ما باليد حيله لابد من مواجهة وتأقلم مع الحدث ( يصعب على البعض منا تطبيق ذلك حتى أنا ) لكن .. كما هو معروف فى الطب يستلزم بعض الامراض العلاج بالصدمة الكهربائية أو الاستئصال أو علاج كيماوى أو تناول دواء غاية في المرارة ...وتكون له آثار جانبية على المريض.. وبالمثل بعض المشكلات العاطفية لابد فيها من المواجهة واتخاذ قرارات قد تبدو صعبة في اولها لكن مع مرور الوقت يتعافى الشخص وينسى الالم ( العاطفي او النفسي ) رويدا رويدا
قد يقول قائل الكلام سهل ( والذي يداه في الماء ليس كمن هو في النار ) صحيح ... لكن ليس هناك في الحياة أي شئ يدوم سواء حزن أو حرمان أو ألم أو فرح (حتى نحن ومن نحبهم أو يحبونا لسنا دامين )
فقط يبقى لدى المرء منا ذكريات جميلة أوحزينة .. حتى تلك الذكريات شئ فشيئا تخبو مع مرور الزمن .لهذا فقد سمى ( انسان من النسيان ) قد يكون رأيى الشخصى غير متوافق مع كثيرين لكن هو رأى عملي ( قد يصعب على أنا شخصيا ) لكن ليس هناك حيلة ..
الخلاصة ( نحن ومن نحبهم ويحبونا ... في معادلة لا تنتهى طالما نعيش ...)
نحب كثيرا ونعشق كثيرا ونحب شخص بعيد عنا ولا يشعر بنا وبالعكس ...ونتالم كثيرا ونعانى كثيرا ونخلص لمن نحب ولا يخلص لنا وبالعكس ا
ونفقد من نحب ويخوننا من نحب وقد نخون ونخذل من يحبونا.. معادلة صعبة جدا..
لكن يبقى شئ يدوم وهو الحب ونحن قد نرحل ويبقى الحب .لذلك سوف أعطي هذا الشخص قلبي وعقلى وأذني .. حتى لا يحترق هو ... بل انا احترق فداء له ...
تحياتي وتقديري لكى لهذا المقال الواقعي بامتياز والتى ابدعتى في توصيف المشكلة والعلاج فى نفس الوقت (فقط أذنيك وقلبك)
الأفراد لا يتشابهون تماما حتى فى تلّقي العون.
مقال رااائع كعادتك سيدتى الفاضلة.