صمود سوريا يعطّل مشروع الشرق الأوسط الجديد
منذ نهاية الحرب الباردة سعت الولايات المتحدة القوة العظمى في العالم إلى إعادة توزيع الأدوار في الشرق الأوسط لبسط هيمنتها لما لهذه المنطقة من أهمية إستراتيجية و اقتصادية و لما تتضمنه من قوى فاعلة مصر و تركيا و العراق و إيران و تتوسطها سوريا التي تصل بين هذه القوى في تكوين جيو استراتيجي واحد ، فكان المخطط هو إعادة رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط، بدأت باندلاع الحرب العراقية الإيرانية ثم بالحرب على العراق و تدمير جيشها و ضرب الحصار على إيران ، و لكن دول الممانعة حالت دون تحقيق الولايات المتحدة لأهدافها رغم أن هذه الأخيرة كونت في المقابل ما يسمّى بدول الاعتدال و هي السعودية و مصر ثم بعد ذلك قطر و تركيا العدالة و التنمية لتوافق مصالحها مع الولايات المتحدة و لوضع حدّ لما يسمى بالتمدد الإيراني لأن إيران تعدّ الداعم الرئيسي للمقاومة - حزب الله و فلسطين -عن طريق سوريا، لذلك صار لزاما على هذه القوى الإطاحة بالنظام السوري عبر حرب أهلية تؤدي في النهاية إلى تقسيم سورية إلى أربع دويلات كحد أدني: دولة شيعية علوية على الساحل في اللاذقية، و دولة حلب السنية مع مدينة حماه تكون امتدادا للعمق الاستراتيجي التركي، و دولة دمشق السنية في الجنوب الشرقي تخضع بصفة غير مباشرة للنفوذ السعودي، و دولة درزية في الجنوب الغربي و دولة كردستان التي تمتد على جزء من الأراضي السورية و العراقية و الإيرانية و التركية و السوفيتية سابقا، و لكن هذا الحلم يبدو صعب المنال لما أبداه النظام السوري من صلابة في التصدي للحملة التخريبية الممنهجة التي تُشَنّ عليه بقيادة الجيش الحرّ و جبهة النصرة بتمويل سعودي قطري غربي و مساعدة تركية، إضافة إلى مواقف كل من الصين و روسيا الداعمة لنظام الأسد دفاعا على مصالحها في الشرق الأوسط و التي يمكن أن تخسرها لو قُدّر لهذا النظام السقوط، و كذلك للمعنويات المرتفعة لعناصر حزب الله منذ تحرير جنوب لبنان و تحقيق انتصار عام 2006 على الكيان الصهيوني و استعداده للدفاع على وحدة ما يسمى بمثلث المقاومة أو المثلث الشيعي المقاوم الذي تمثل سورية نقطة الوصل فيه، و قد تدخل أخيرا في تحرير منطقة القصير إلى جانب الجيش السوري مما أثار حفيظة البعض من الشيوخ المحرضين على الفتنة حتى وصل الأمر بالقرضاوي أن يطلب تدخل أمريكا و يطمئن إسرائيل و يدعو للاقتتال بين المسلمين باسم الجهاد ضد الشيعة!!.
إن المتأمل في الأدوار العربية التي تلعبها لمساعدة القوى الخارجية على إعادة تقسيم الشرق الأوسط من جديد خاصة من خلال الدور السّلبي الذي تلعبه جامعة الدول العربية و التي أصبحت لعبة في يد حكام قطر يحيلنا إلى تاريخ ليس ببعيد استُغل فيه العربُ لإسقاط الخلافة الإسلامية بأيديهم و مساعدة القوى الغربية الاستعمارية على تقسيم المشرق العربي طمعا في السلطة تحت ما يسمى آنذاك بالثورة العربية ضد الخلافة العثمانية، حيث اندلعت في 10 جوان 1916 بإعلان الشريف حسين الجهاد المقدس والثورة على العثمانيين بمساعدة ضابط الاستخبارات البريطانية "توماس إدوارد لورنس"، واستطاع أبناؤه السيطرة على الحجاز بمساعدة الإنجليز ثم تقدم ابنه فيصل بن حسين نحو الشام ووصل بمساعدة الإنجليز إلى دمشق حيث خرج العثمانيون منها وأعلن فيها قيام الحكومة العربية الموالية لوالده الذي كان قد أعلن نفسه ملكا على العرب غير أن الحلفاء لم يعترفوا به إلا ملكا على الحجاز وشرق الأردن. وعلى الرغم من تعهدات بريطانيا للعرب بقيام دولة عربية كبرى فقد أجرت هذه الدولة مفاوضات واتفاقيات سرية مع فرنسا وروسيا تناولت اقتسام الأملاك العثمانية بما فيها البلاد العربية ثم انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية عرفت باتفاقية سايكس بيكو 1916 نسبة إلى كل من المندوب البريطاني مارك سايكس والمندوب الفرنسي فرانسوا جورج بيكو وقد قاما بهذه المفاوضات التي فضح أمرها بعد الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 وفي السنة نفسها غدرت بريطانيا بالعرب مرة أخرى إذ وجدوا أنفسهم قد ساهموا بفضل غبائهم و ولائهم للقوى الاستعمارية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين من خلال ما عرف بوعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر 1917 و من ثمة تقسيم المشرق العربي و اقتسام تركة الرجل المريض بين القوى الاستعمارية- فرنسا و بريطانيا- بغطاء دولي ضمن ما يسمّى بـ"الانتداب" بقرار من عصبة الأمم (الأمم المتحدة). فبالأمس حلم العرب بإقامة الدولة العربية الكبرى في مقابل الدولة العثمانية و اليوم نفس الحلم يتكرر و لكن تغيرت طبيعة هذه الدولة المنشودة من عربية قومية إلى إسلامية في مقابل الدولة الإيرانية ،بالأمس كان الشريف حسين و اليوم السعودية و قطر بسعيهما إلى إقامة عصبيات سنية متشددة تحتمي بها هذه الأنظمة بحجة الدفاع عن الإسلام السّني من المدّ الشيعي!! لأن هذه الدول و خاصة السعودية تقوم على العصبية المذهبية الوهابية و اعتبار نفسها الحارس الوحيد للإسلام و التوحيد من الشرك و عبادة الأوثان على حد تعبيرهم، و قد استعملت هذه الذريعة في إرسال المقاتلين إلى سوريا بحجة محاربة العلويين و إقامة دولة الخلافة في الشام! كما لا يجب إغفال العمق الاستراتيجي للمشروع العثماتركي بقيادة أردوغان الذي نص عليه داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي" صراحة، بأنّ تركيا يجب أن تلعب دوراً بما لا يتناقض مع الدور الأميركي والدور الغربي في المنطقة، كما يجب أن تتوافق تركيا مع الولايات المتحدة استراتيجياً في البلقان والقوقاز والمشرق العربي، أما المصالح الفرنسية و الأنجليزية فتتمثل في الحصول على الطاقة بأرخص التكاليف من قطر عبر مدّ أنبوب الغاز إلى أوروبا عبر سوريا و تركيا و التخلص من التبعية الروسية كمزود رئيسي لأوربا بالغاز الطبيعي.
إن الشعارات التي ترفعها هذه الدول الاستعمارية و التي كشفت عن أطماعها في الشرق الأوسط لم تعد تنطلي على ذي عقل، كنشر الديمقراطية و إقامة الخلافة الإسلامية أو مناهضة المدّ الشيعي و التصدي للمشروع النووي الإيراني موظفة في ذلك الدول العربية كواجهة بلورية تخفي وراءها الأطماع ومشاريع الهيمنة... و لكن مع الأسف هناك من يروج لهذا المشروع الاستعماري الجديد بإثارة الفتن الطائفية و تحريض المسلمين على الاقتتال فيما بينهم لأن العرب مازالوا لم يستوعبوا الدرس و لم يتعظوا من التاريخ، فكما أسقطوا الخلافة الإسلامية باسم الجهاد المقدس اليوم يريدون إعادة الخلافة باسم الجهاد المقدس. و لكن الزمن غير الزمن و الرجال غير الرجال، فصمود سورية أمام هذه الرياح العاتية هو صمود لدول الممانعة و تعطيل للمشروع الصهيوني التركي الأمريكي لإعادة تقسيم المشرق العربي بأياد عربية تخرب بيوتها بأيديها، اجتمع عندها المال و الجهل فكان الغباء و العمالة.
سوريا#
-
بهيجأستاذ باحث