بيت فؤاد ١٩
الحياة مغامرة .. وجميعنا نخاف من التغير، إلا أن يقع ذلك الحدث الذي كنا نخشاه منذ سنين، فندرك أننا انتظرنا كثيراً في المحطة الخطأ، عندها نحزم حقيبتنا ونسير في اتجاه لم نفكر يوماً أن نسير فيه.
نشر في 14 غشت 2018 .
لطالما أخذت دور الحكم على حياة الناس، وكنت ألومهم على مواقفهم، بيني وبين نفسي كنت أرى أن حياة البعض تقليدية ومملة. فكنت شخصاً لم يعش يوماً حياة المجتمع الروتينية، وكنت أمضي في كل خطوة بحياتي بطريق لا يشبه الطريق الذي يسير عليه الآخرون.
"لطالما هددتها ممازحاً بالفراق؛ كنت دائماً استغل مواقف الشجار لأرسل لها تلك الرسائل مودعاً؛ لكنني بيني وبين نفسي كنت أشعر بأن قلبي يرفرف شوقاً لرؤيتها، لعناقها، للحديث ولكل شيء معها. لكن ذلك لم يدم طويلاً، لأنني وصلت إلى تلك المرحلة التي لم أعد فيها أنا، شيء ما كان ينحسر شيئاً فشيئاً بداخلي اتجاهها؛ لم يعد اللقاء بتلك اللهفة، ولا القبلة بذلك الشغف، حتى الصمت الذي كان شيئاً مستحيل الحصول في لقائتنا، كان في الآونة الأخيرة يسيطر شبه كلياً على حديثنا اللبق!
إنه من أحد أصعب المواقف التي تواجهنا في الحياة؛ الانسحاب الموجع اللبق، ما يعني أنه عليك أن تقول لأحدهم بغاية اللطف أنك لم تعد تكن له أي شعور، أنك على وشك أن تحطم قلبه لأجزاء عديدة، أنك ستكون الموت الأول لأحد أجزاء موته الكبير! أرى في عينيها أنها بدأت تفهم أنني أنسحب بطريقة تكتيكية، لكنني أيضاً ما أزال أرى فيهما نشوة الحب وشغف العشق.
ثم تبدأ بحثك الدائب عن أي سبب للشجار، مهما كانت مبرراتك تافهة وقبيحة، عليك أنت بداية من نفسك أن تصدقها؛ كان أول ما جال في خاطرها وجود شخص جديد في حياتي، لكنها لم تكن تدرك أن قلبي كان يعيش حالة الفراغ القبيحة، ثم ماذا يعني أن يتوقف قلبك هكذا فجأة عن الشعور! كانت تتوسلني أن أجد أي علة بعلاقتنا حتى تقوم بتصحيحها، لم تكن تدري أننا مهما كنا مثاليان فإننا لم نعد ننفع لهذا الحب الذي تاه فجأة في صحراء الفراغ.
كان جل ما أريده أن أنجو من تلك العلاقة بسلام، دون دموع كذلك دون نظرات عيناها التائهتين، تسألني كيف ستكون من بعدي، فلا أجد إجابة سوى دموعي التي تهطل كالسيل على وجنتي، أنا نفسي لا أدري كيف سأكون من بعدها، لكنني في الوقت نفسه لا أدري كيف أكون معها؛ كيف أوقف عاصفة التساؤلات البغيضة، كيف أنعش قلبي الذي توقف فجأة عن النبض حباً!
تطلب مني أن نأخذ استراحة وبعدها نعود، عل البعد ينعش ما تبقى من شعور داخلي، لكنني في داخلي أدرك تماماً أن جل ما أريده هو أن أقصيها من حياتي؛ رغم أنها لم تكن سوى بغاية النبل معي، إلا أنني في كل مرة أكون فيها معها أشعر بالألم والضياع.
ودعتها في مكان لم نلتقي فيه أبداً ورحلت مخلفاً ورائي جرحاً لكلانا لن يلتئم. لطالما كرهت الفراق الذي يأتي دون وداع، لطالما شعرت بالبأس الشديد اتجاه آولئك الذين يختفون فجأة من حياتنا دون مبررات وحتى دون وداع. لكنني كنت أعلم أن كل خطوة تقربنا ستؤلم كلانا. لكنني لم أكن أدري أن ألم الفراق سيبلغ هذا الحد الذي لا يرحم."
كانت هذه قصة "فؤاد" المختصرة عن حبها له. كن نصفق لها بعد أن ينتهي .. نشعر ربما بأننا مررنا بذات الشعور لكن لا أحد منا يجرأ على مصارحة الآخر بهذا. يقول أحد الأصدقاء ممازحاً ..
"إنها أحد إيجابيات الزواج التقليدي أنك لا تمر في هذه الحالة، لأن ليس مشاعرك ما يسيطر على علاقتك، بل هي التجربة التي تعيشها مع ذلك الانسان الذي تسكن معه".
تجادلت يومها معه حتى احتد بيننا النقاش، وقلت له بشيء من التكبر :" هذا يشبه أن تخون زوجتك مع عاهرة ولا تشعر بالذنب سوى على أنك أنفقت مالاً.".
حدث وأن مست كلماتي كرامته، تشاجرنا بينما كان "فؤاد" وباقي المجموعة يحاولون تهدأت الوضع بيننا. وعندما رحل الجميع وبقيت وحيداً مع "فؤاد" نعيد ترتيب المنزل، وضع موسيقا هادئة واقترب مني وطلب مني أن أشاركه كأساً بجو من الهدوء والسلام ..
" قد تدرك ذات يوم وسيأتي هذا اليوم متأخراً بأنك لم تخلق لتسعد بالحب؛ ذلك أن مشاعرك دائماً ما تتجه بعيداً عن واقعك. كانت النسوة دوماً تتحدث بأن الحب لا يشتري الخبز، وأن الزواج يجب أن يكون عقلانياً، لأن الحب لا يصمد أمام الفقر مثلاً .. أو مثلاً أمام الخيانة. أجل فإنك قد تسامج شخصاً تزوجته بطريقة تقليدي إذا ما خان ذات يوم، لكنك من الصعب جداً أن تتحمل خيانة من تحب.".
نحن نجري وراء تعاستنا، نتعلق بها حد الإدمان، أحياناً نصل إلى تلك المرحلة التي نتوجس فيها عندما نشعر بالسعادة؛ لأننا تربينا على أن الضحك قبل النوم يجلب الكوابيس، والضحك الكثير يجلب الحزن، والضحك في العلن يجلب العار، والضحك من غير سبب من قلة التهذيب والأدب .. كأنهم كانوا يطالبوننا بأن نعتاد على أن هذا الضحك سيكون الشؤم الذي سيلاحقنا في المستقبل. وأي مستقبل هذا الذي فيه جدران تسمع، ومقابر تعج بالمفكرين، وأقلام تتحطم مع أصابع أصحابها. ابتعد عن الثالوث المحرم وستكون بخير، لكننا في الخفاء نتاجر بهذا الثالوث. هذا ما تربينا عليه وما تعلمناه فلماذا نتعجب مما نحن عليه اليوم؟!
"الحياة عبارة عن محطات لقاء ووداع، وأنا سأودعك عند اللحظة التي تركتك فيها عند باب المبنى وأنا أمسك يدك فيها؛ أتوسلك أن تسامحيني بقلبي أنني عندما سأغادر لن أعود موجوداً في حياتك. كنت أضعف من أن أصارحك بأنني لم أعد أحبك؛ كنت أنانياً جداً عندها لكنني كنت أعلم بأن قلبك الطيب سيبقى يحتويني حتى الأبد. لقد كنا بوقت ما نحاول أن نغير بعضنا البعض، ذلك الاختلاف الذي قربنا لسنين طويلة لم يعد يفعل مع الأيام. الفراق مصير محتوم، والبكاء كذلك من المؤلم جداً. أن أودعك وأنا أرى آلاف الأحلام تنهار في عينيك، أن أستمع إلى صوت تحطم قلبك .. أن أسير بكل وحشية على خريطة الحياة التي رسمناها كعائلة، أن أجهض الأطفال الذين اخترنا اسماءهم قبل أن يولدوا، أن أصوب سلاحي نحوك وأبدأ في التصويب على كل طرف منك ولا أقتلك؛
هل كان سيفرق لو أنني كتبت لك رسالة أخبرك فيها أن حبنا قد غادر إلى مثواه الأخير، هل كان سيكون منصفاً أن أبلل رسالة الوداع بدموع القسوة. كنت أتجنب كل هذا كي لا تردي علي بالصمت، لم أكن أعلم أن مصيرك بعدي سيكون الصمت للأبد، لأنني في الواقع أدرك أنك لن تسامحني، لكنك أخرجتني من قلبك، فأنت لم تعودي تحبيني في الوقت الذي عاد فيه قلبي يحبك؛ لم يكن يجدر بي ان ابحث عن فتاة تشبهك، فأنا شخص لا يستحق أن يكرره التاريخ مع شخص مثلك، شخص أناني مريض، تجردت الرحمة من قلبه مع الأيام.".
لكنها ما تزال .. وما أزال .. رغم أن كل منا سار بدرب لا يمكن أن يكون له محطة تجمعنا. لأننا غادرنا في وقت مبكر ووصلنا متأخرين.
التعليقات
لكنه في مجمله جميل ماشاء الله