المدينة القديمة
أمام البحر، لم أكن حزين ولا مهموم، أتذكر الأيام الأخيرة في مدينتي. أتمشى في شارع مثقل بأشجار النخيل. سرحت في هذا الترتيب الخرافي الذي مزق صفوة حياتي. ذاكرتي كالفرس الحرُّون تتلذذ بتأبيني.
مدينة لا تتوقف عن إنجاب النساء وتجميلهن وتنويع القدود والملامح والابتسامات. عالم غامض، محاط بأسوار عالية، بها أبواب في أغلب الأحيان لا تتعدي أصابع الكف الواحد، تتوسطه ساحة كبيرة، بمرافق اجتماعية خالصة، تتفرغ عنها أزقة ودروب ضيقة، لا يتسع عرضها إلا لدابة يتقدمها صاحبها، دائرية في تناسق حلزوني. بنايات متهالكة تركت الرطوبة تجاعيدها، عبق التاريخ وجحود مالكيها، ميزة يلتقط الزائر صورها بفرح غريب. تعج بالناس قبيل صلاة العصر في حركة مد وجزر، تجارية البصمة، صاخبة ومسرعة، خوفا من حظر ليلي بقي عالقا في أدهان حجيجها.
يوم الجمعة، استثناء، تنطلق الحركة التجارية مند الصباح الباكر، بفضل الوافدين عليها، غالبا يكون يوم عطلة لأحوازها. تتنفس في ضجيج طيلة النهار إلى حدود ما بعد أدان المغرب بقليل. تكتظ الأزقة في منظر كرنفالي، تضيق الدروب والساحات إلى درجة فيضان شبكة التطهير. يبدو المشهد مقززا، روائح نتنة، قاذورات في كل الأركان، فئران بمختلف الأحجام تعبر في صمت، في واضحة النهار، عن احتجاجها، غير أبهة بالمارة، يجتنبونها في رهبة وخنوع، كطقس هندوسي.
قبالة الساحة المركزية، كومة من الأزبال، تأثث فضاء السوق، حيوانات ضارة وضارية، تتبضع وتخزن مأكولاتها، في غفلة من المصلين، الدين احتلوا المسجد والدروب المتفرغة عنها، خاشعين وراء خطبة خطيب السلطة. سكون تام، إلا من شغب أشعة الشمس الجاثمة على رؤوس الرجال. فالرجال قوامون على النساء، على ناصية الأزقة الرئيسية.
في حين، تتمركز النساء وراء ستائر من التوب الرخيص على مدخل البيوت والدروب المغلقة، جالسين على أحصرة من الدوم، المغطاة بزرابي صغيرة بمختلف الألوان، في منافسة غير معلنة للموضة والتباهي بجلاليب الإحرام. تفوح منها عطور الكولونيا المستوردة، أمام أحجار التيمم، سبحات التذكير. فيوم الجمعة يوم عيد.
تذكرت ذات يوم، امتلأت قنوات الصرف الصحي بالمياه العادمة. كان يوم جمعة، مصادفا لعيد الأضحى، من كثرة الوضوء، واستحمام نصف ساكنة المدينة من جنابة قاتلة. فاضت القواديس، في هجوم على الفئران والقوارض المحتلة قبو المدينة، خرجوا هاربين من كثرة السيلان في هجوم مباغت على الساجدين المحتلين للمكان العام، الخاشعين في الصلاة. إبتداءا من أركان الأزقة المخصصة للنساء. تعالت أصوات الحريم وعويل الصبية، في منظر مرعب، خوفا على أنفسهم، بدؤوا في الجري والهروب عافسين، عافطين على أرجل وأقدام المصلين من الرجال، تحت غضب وسبهم غير أبهين بحرمة المكان والعيد...
لكم أن تتخيلوا ذالك المنظر... ولكم واسع الخيال...
سعيد تيركيت
الخميسات 01 / 03 / 2015.