مناصب ومصائر..

هيام فؤاد ضمرة..

لا أستطيع التفكير بالأسر التي تتصدر مواقع الحكم وتمسك زمام السلطة في أي بلد شرقي إلا وأشعر بالشفقة حدّ الشعور بالحزن، حقا هم يعيشون حياة البذخ والأبهة بأعلى مراتبها ودرجاتها، ويتحركون بين نخب العالم وكبار شخصياته، ويرتدون ملابسهم من أفخر الماركات العالمية، ويرتادون أفخر الأماكن وأكثرها فخافة، ويأكلون ما لا يستطيع أكله الناس العاديين في كثير من الأوقات.. لكنهم يعيشون الخوف الدائم ويتوقعون المخاطر حتى من أقرب الناس إليهم، فيقضون حياتهم في صراعات لا تنتهي ولا ترحم من أجل الاستئثار بالأدوار، أو من أجل حماية أنفسهم والحفاظ على مواقع السيادة والسلطة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً..

لكنهم حينما تهتز الأرض من تحت أقدامهم، وتتفجر الأحداث من حولهم، وتتكاثف غيوم التهديدات فوق رؤوسهم، وتنهار مراكزهم أمام خطر داهم لا قِـبل لهم على مواجهته، وايقاف هجومه العاتي، فيتعرضون لمخطط إنقلاب داوي، يجردهم من السلطة ومن ثرائها، وفقدان كافة ممتلكاتهم الشخصية، ليصبح كل ما كانوا يعيشون بظله من رفاهية هباءاً منثورا.

ويصبحون تحت إمرة أصحاب الإنقلاب المغيريين، وتحت رحمة قراراتهم في تحديد مصيرهم، إما بالعزل، أو بالموت، أو بالإبعاد إلى المنافي، ليهبطوا بهم من أعلى سلم الثراء إلى أدنى درجات الفقر والفاقة في بلاد غريبة وظروف عجيبة، في بلاد منفى لا يمتون إليها، ومجبورين احتمال ظروفها، ومستوى العيش العادي أو الأقل من العادي في بعض الأحيان، وقد تساقطت عنهم كل مميزات السلطة، وتواروا في الزوايا المظلمة خارج دائرة الضوء، بل أحياناً خارج حدود الحياة نفسها على رغم وجودهم على قيد الحياة.

فبعد أن يكونوا مثار حسد يتقلبون على فُرُشٍ من حرير، ويتنعَّمون بكلِّ ما لذَّ وطابَ من الخيرات، تحِفُّ بهم مظاهر الرفاهية بكل ألوانها وأشكالها، ولديهم جيش من الخدم يسهرون على أدق احتياجاتهم وعلى مواكب راحتهم ورفاهيتهم، فيما الغالبية من شعوبهم يتضورون جوعاً وفاقة، لدرجة ألا يمتلكوا أدنى مقومات الحياة، فإذا فجأة وبين ليلة وضحاها يجدون أنفسهم على قارعة الطريق بلا أدنى عتاد يمنحهم حياة كريمة على أقل تقدير، فينظر الواحد منهم حوله كالأبله غير مصدق ما آلت إليه حاله وما انحدرت به أحواله.

هذا الخاطر واجهته بقوة وأنا أطالع خبر وفاة الأميرة التركية المُعمرة حفيدة السلطان عبد الحميد الثاني (بيلون ألبان) في أحد مستشفيات العاصمة بيروت عن عمر ناهز 101عاماً، ومثلها مثل غيرها من أفراد الأسرة العثمانية الحاكمة التي حكم نظام أتاتورك الجمهوري على جميع أفرادها حتى الأطفال والشيوخ بالنفي، وباتت مجرد لاجئة لا تلقى أدني درجات الحماية أو الاهتمام، تعيش منذ العام 1929م في المنافي وتتعرض إلى ما يتعرض له العامة من الناس.

فإذا بذاكرتي تستعيد المزيد من قصص من فقدوا الحكم والسلطة وعاشوا عيشة الضنك بعد بحبوحة ورفاهية وثراء، أو عاشوا عيشة الظل في المنافي كأي مواطن عادي، كالسلطان عبدالحميد الثاني آخر سلاطين الامبراطورية العثمانية الذي توفى في منفاه، وأبو عبدالله الصغير من بني الأحمر آخر ملوك الطوائف في الأندلس الذي توفى مُعدما في منفاه في المغرب، والملك فاروق ملك مصر والسودان الذي عاش منفيا في روما حتى وفاته، وأسرة آخر أباطرة روسيا نيكولاي رومانوف وغيرهم.

وتحضرني هذه الساعة قصة الوثيقة التي كُشِف النقابُ عنها حديثاً، لتلك الرسالة التي كتبتها شقيقة السلطان عبد الحميد الثاني (سنيحة) إلى رئيس الجمهورية التركية الجديد أتاتورك تستعطفه لأنْ يرأف بتقدمها بالعمر وملازمتها غرفتها في القصر وقد وصلت من العمر عتيا، ووصل بها العمر إلى 78عاما ولم يبقى لها من الحياة سوى القليل، لأن يسمح لها بالبقاء في تركيا حتى الموت والدفن تحت ثراها، لكن رسالتها لم تلقى اهتماماً وحكم عليها بمغادرة قصر (طوب قابي) بالأستانة، ومغادرة تركيا إلى المنفى في فرنسا، حتى ماتت في منفاها في مدينة نيس الفرنسية في 15 سبتمبر 1931م.

والسلطان عبدالحميد الثاني هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية وخليفة المسلمين الرقم 102 .. موقفه المتشدد من الحركة الصهيونية ومن مطالبهم في اتخاذ أرض فلسطين موقعا لاستقبال اليهود الروس، أوقعه في مكائد المستعمرين  واليهود وتخريبات الانقلابيين، فنشطت الحركات المناهضة لحكم السلطان، ودُبرت له وقائع الفوضى والثورات، واتهم بما ليس فيه واستصدروا فتوى شرعية مزيفة لخلعه، ومن ثم تم عزله ونفيه وأسرته إلى قصر ألاتيني في مدينة سالونيك التركية ومصادرة جميع ممتلكاته وأمواله حتى تلك التي بحسابه في البنوك الألمانية، ونصب مكانه شقيقه محمد الخامس، وقد اتبع السلطان المَنفي عبدالحميد الثاني الطريقة الشاذلية ، وتم نقله إلى اسطنبول بعد اندلاع حرب البلقان إلى أن توفى بالسل عام 1918م. ورثاه الشعراء العرب كأحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي.

ولو أردت تعداد ما يتعرض له الحكام من مكائد، وانقلابات، ومحاولات تخريب، أو محاولات قتل، لتطلب ذلك مني استحضار قصص من التاريخ ما يعبئ محتوى مجلد.

وأريد أن أختم مقالتي بالقول أن حصول الحاصلين على مواقع الحكم ليس مرده لسبب نباهتهم أو رجحان عقولهم، وإن كانت أدوارهم تتطلب هذه الصفات، بل في غالب الأمر أن فرص الحظ هي من تتيح لهم هذه الأماكن، والأقدار هي من توجه مصائرهم.. والحصول على مواقع القرار الأول هو بحد ذاته ذكاء اجتماعي وبالغالب هي غاية النشطين المتميزين في الأداء.