مابعد الرحيل - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مابعد الرحيل

مقتطف من روايتي ارواح.

  نشر في 19 يونيو 2016 .

إننا نسارع خلف الحب، ثم سرعان ما نخسره، نخسر الأناس الذين هم فعلا بادلونا تلك المشاعر النبيلة، الذين أخافتنا طيبتهم وردعتنا شفافيتهم من الاقتراب أكثر حتى لا نرى سواد القسوة التي نعيش في ظلها.  نسير مودعين قلوبا تنزف بعدنا غير مبالين في تلك اللحظات بما سيحدث عند غيابنا، غير مبالين بدموعهم بالألم الذي سيسكنهم وربما يغير مجرى حياتهم حتى الأبد.

الرسائل الأخيرة، الكلمات التي نودع بها، اللحظات التي لن توجد مجددا، تلك الأوقات وحدها من تستطيع أن تكون صادقا فيها وأن تصدق الآخر بها في المقابل، ستكون عند المحك، عند حاجز الإعدام، رقبتك تحت المقصلة أنت ميت ميت، عندها ستبوح بكلمات جارحة، بأسرار فاضحة، بكلام لطالما بلعته بمرارته لأجل أن تستمر تلك العلاقة التي على ما يبدو محكوم عليها منذ البداية بالزوال.

وهكذا تمر الأيام في ظل البعد باردة، خالية من أي معنى، أتجول فيها بين الذكريات، ابحث عن مبرر لما حصل، لكن لا شيء يقنعني، أزور المقهى أجده ساكناً ميتا .. فاقدا لروحه النشيطة، أتناول فنجان قهوة مر ساخن، أتجرع حزني وفراغي دون أن يشعر بي أحد، لا الموسيقا الحزينة تنصف ألمي، ولا السعيدة تبحث في روحي الفرح.

تسألني لماذا صوتي يبدو هكذا متعب، أجيبها بأنني مرهق، اسمع صدى ضحكته وهو يتلمس جسدها، تبعده بلطف ثم تختلي بنفسها، تكرر سؤالها وقد بدا الاهتمام جليا بصوتها، تدعوني لزيارة الآلهة، تقول تعال لنعبث قليلا يوم السبت القادم، أجيبها مرتبكا بإجابات كاذبة، ربما كنت أتهرب منها عمدا وربما كان شعوري محض وهم، الفراغ الذي يخلفه أولئك الناس الذين نعتاد وجودهم أقوى بكثير من ذلك الذي يخلفه غياب من نحب، لهذا فضلت الصداقة على الحب، رغم أنني لم أكن أؤمن حرفيا بمفهوم الصداقة بين الذكر والانثى، لأن غريزة الرجل دائما ما تسوقه نحو أي شيء ينتهي بالتاء الساكنة.

مما لا يمكن نكرانه هو أن للشوق رحلة عذاب طويلة، وخاصة عندما تكون مجبرا على التعايش مع اللامبالاة أمام الناس الذين يجهلون ما يدور في عقلك وقلبك، الأشياء التي أصبحت روتينية واعتدت القيام بها مع من تحب لن تستطيع القيام بها اليوم وحدك، تلك الرسائل النصية القصيرة التي لاتنتهي عبر مدار اليوم، المكالمات العابرة والطويلة، التفاصيل التي تجمعها في ذاكرتك لتخبره بها عندما تلتقيان، الحماس الذي تقابل فيه الحياة في كل مرة تتذكره فيها، هذه هي السعادة الحقيقية ولا شيء آخر.

أنا لا أتحدث عن مشاعري اتجاه ماريا، ولا كذلك عن سارة، اتحدث عن المشاعر مجردة من الأسماء والهويات، من مشاعر تجرب أن تغتالنا طوال حياتنا وربما تنجح في قتلنا بالنهاية، اتحدث ربما عن روتين الأسرة والطفولة، عن تلك الأحداث التي تتكرر كل يوم ولا تشعر بقيمتها إلا بعدما تصبح مجبرا على تغيرها، مائدة الطعام المثال الأمثل هنا، تلك الطاولة التي نجتمع عليها كلنا واحد فقط فيها يحمل مسؤولية الجميع، وواحدة فقط من تحملهم بقلبها وتحبهم أكثر من ذاتها، أما البقية فيحملون أحلامهم فقط، يقلبونها بين واقع وخيال، وفجأة مع مرور الوقت تتخلى شيئًا فشيئًا عن ذلك الاجتماع المثير، الذي تراه في بعض الأوقات بلا معنى، فأنت تفضل تناول الطعام مع أصدقائك في الخارج أو في أي مكان على أن تتناوله مع أسرتك، لإنك تضمن تلك الخطوة، لكن بعد أن تفقدها تصبح مستعدا لدفع ثمن ضخم لأن تتناول برفقتهم ولو رغيفاً من الخبز، وفي الغربة ها هنا يكون تناول الطعام من أقبح الأمور الروتينية في الحياة، حينما تجتمع أنت وذاتك فقط وصدى صوتك وهو يفتك بالطعام.

ومن قال إن الكره يساعد في النسيان، من كذب تلك الكذبة وصدقها، لا علاقة للكره بالاشتياق هذا شيء مؤكد، فربما تتحول مشاعرك اتجاه شخص لكنك ستحتاج ذات الوقت حتى تنساه، أنت لن تنساه حرفيا فنحن و الماضي كتلة واحدة لا يمكن أن تتجزأ، لكنك بالأحرى ستعتاد الغياب، سيصبح من السهل عليك أن تبرمج حياتك على نمط جديد تسير عليه وحدك، برفقة ذكرياتك وأحلامك، أن يصبح هاتفك مجرد أداة ساكنة تستخدمها عند الضرورة، أن تعود إلى ذات المجرى الساكن تبحث في لاوعيك عن حب جديد، عن إنسان يحتضن وحدتك رغم أنك تدعي فقدان الثقة، لكنك ستعود وتثق على الرغم من أن أشياء كثيرة ستكون قد تغيرت فيك. 


  • 5

   نشر في 19 يونيو 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا