تَعَشَّيت؟ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

تَعَشَّيت؟

  نشر في 14 أكتوبر 2018 .

( في السبعين، سأجلس على كرسي هزّاز، متدثراً بغطاء رقيق على فخذي، ناظراً من شرفة جميلة، وأقول في نفسي أنّ كل شئ جرى بمثالية. بذلت مافي وسعي، وقد نجحت تماماً)

ماسبق هو حلم يقظتي. رفيقي منذ أمد. يعينني ويشد من أزري في الصعاب.

يوماً ما سأجلس كهلاً في الشرفة، محققاً إنجازاً مشهوداً، لا أعرف بالضبط كنهُه حتى الآن. وسأكون راضياً جداً عمّا سبق، كمن وصل لوجهته بالقطار في المعاد المحدد، ومع رفقة جيدة، بالمصادفة، وجهاز تكييف مضبوط في العربة، لا هو ضعيف ولا هو مُتَجمّد، فيقول والقطار يكبح سرعته قبل الوصول "كانت سفرية سعيدة"

سأبذل قصارى جهدي من أجل تلك اللحظة، من أجل شخص سبعيني يشبهني، يجلس في الشرفة، يدغدغه الإنتصار.

منذ طفولتي كنت أحترم تأجيل المُتع المؤقتة لأجل متعة أسمى وأدوم.. في المدرسة لم أكن أنهي كل مصروفي كزملائي. كنت أكبح جماح نفسي، أدربها، أقول لن ينتهي مصروفي اليوم، سنحدد هدف لشرائه، شئ تمنيناه، والمال سلاح، لابد ألّا ينفذ جيبي. بنيت سدّاً وراء سد أمام نهر ثائر من الرغبة، والآن ينهارون حجراً تلو حجر.

منذ عدة سنين، كان الرجل العجوز-بطل حلم يقظتي-مهمّاً. كنت أشعر بضروريته. أمّا الآن وبعد متواليات من الفشل والخسارة، وبعد إنكشاف نفسي أمامي، رويداً رويداً، كسطح القمر أمام شاعر عربي قديم، يضبط ببطء عدسات تيليسكوب. فتزول ضبابية رؤية سطحه بالتدريج، وتصدمه قبح فوهاته. بعد كل هذا الإنكشاف، أعترف وبصراحة، أني خائف منه. أراه يقوم من على كرسيه الآن، ويقول "خذلتنا"

تنص الفيزياء على أنّ لكل جسم مادي تردد معين. وفي حالة مواجهة الجسم لهذا التردد، تنتقل أكبر كمية من الطاقه لهذه المادة، فتهتز جزيئات المادة وتسخن، ويمكن أن يتحطّم الجسم ككل. هناك جسوراً تحطمت كقش، عندما حركتها الرياح بتردد رنيني.

خ ذ ل ... خاء ذال لام، أكتب الكلمة امامي على ورقة، أقلّب الحروف، ألعب وأغير الترتيب. أبعد الحروف عن بعضها وأجمعها مرة أخرى، أكتب التصريف "خذلتنا" أستشعر فيها طاقة رعب بعد أن جُمِعت! إنها كلمة، ترتيب حروف، أنا العب بها، فمن أين لها تلك القوة؟ أحاول إقناع نفسي كما كان يقنعني جدّي بأن البطة التي تاهت عن أمها مجرد كارتون "كل هذه مجرد رسومات تتابع يا صغيري" بلا جدوى.

الأصدقاء، كل منهم له كلمة، مثل (سأتركك) ..(أعتمد عليك بشدة) ... (ستشيخ وستموت)..(أنت قبيح الشكل).. (لا أحد يحبك)

كل منا، له كلمة مثل تردد الرنين. أكتشفت ذلك متأخراً، و (خَذَلتَنا) كانت من نصيبي..

ربما يكمن الحل في الرضا. هذا العجوز المتخَيّل يجب أن ينكسر، يجب أن يرضى بما تم حصده.

لي صديق كنت أشعر بسعادته، وأندهش من قبوله لكل شئ. حتى كَتب على الفيسبوك أنه راضٍ، ممتن، لكل شئ، ممتن لأمه وزوجته وراضٍ عنهم وعن عمله. وكأنه يبعثها لي.

صديقي لا يملك رجلاً على كرسي هزاز، صديقي تنتظره سيدة ستينية، تجلس على أريكة تغزل التريكوه. تقول له "إرتح.. بذلت مافي وسعك "

أو ربما يكمن الحل في عدم إنتظار شئ من البداية، عدم إنتظار لقاء سيحدث في نهاية الرحلة من الأساس.

و لكن إن سألتِني، فأنا أفضل وجود السيدة. أجلس بجوارها، نتحدث عن الأفلام والكتب التي قرأتها خلال الرحلة. أحكي لها عن هزائمي. وعن حيرتي ساعتها وسؤالي لماذا فشلت، كطفل صغير يحتار أمام سؤال ونموذج الإجابة تحت قدمه ولا يدري؟ او كمن تُرك عمداً في متاهة وشخص آخر في مكان ما يشهد كل هذا ويضحك. أحكي أنني غاضب، وأنني لم أكن أستحق هذا. آخذ راحتي في لوم كل شئ بدون خوف من دعوات الحياد. والسيدة تسمع وتقتنع براويتي، لن تطالب بشهادة أطراف أخرى، تقول برفق بعد أن أنتهي "تَعَشَّيت؟"

أريد السيدة لا الرجل العجوز، أو لا شئ على الإطلاق.



  • 2

   نشر في 14 أكتوبر 2018 .

التعليقات

هانم مصطفي منذ 5 سنة
احسنت
0
ابو البراء منذ 6 سنة
حقا يا صديقي هذة الكلمات كانت من اجمل ما قرأت اختيرت حروفها بعناية فائقة احييك على هذا النفس وهذا الاطراء وتلك المقالة الرائعة بمعنى الكلمة
0
لؤي أحمد
شكرا مبسوط أن النص عجبك

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا