هدأت العاصفة وكانت هاته المرة أقوى من كل المرات الماضية،ساد صمت رهيب ،غير ذلك الذي كنا ننشده منذ زمن طويل،صمت عرى فينا المواجع وزاد من هول ما تم حصده إلى الآن ،رمشه عين كانت كافية بأن تؤتي ملكنا الحضيض،غبار ولج الحلوق واعترى الضمائر غطاها دفنها ولم يقوى على دفننا،سارع الجميع لإنقاذ الجميع فنحن هنا جميعنا ضحية لعبة نتنة بدأت روائحها الكريهة تصل الأنوف وما تفعله الأخيرة أنها توليها بظهرها فيبدو الأمر وكأنها اشتمت روائح عطور باريسية بدل ذلك ،لا أحد لا أحد يكترث لأمرنا غير مجموعة نسميها حمام السلام ،يحطون فوقنا ويعملون جهدهم كي نخرج مبتورين نرزق أو على الأقل يعنيهم أمر تذكيرنا بالشهادتين .
كان الطنين أقوى من أن تحتمله طبلتا أذني،حتى خيل إلي بأن الدم أحجم عن التدفق من جروحي وإصاباتي البالغة واختارهما سبيلا ليبرز للوجود فصار سيلا جارفا،كان منظري ك أولئك اللذين كنا نراهم عبر شاشة التلفاز ممثلون بوجوه قبيحة مغبرة مضرجة بالدماء كنا نسرع لتغيير القناة وكأننا نخاف أن يصيبنا ما أصابهم يوما ، فكانت النبوءة صحيحة صرنا نعيش تلك المناظر عبر شاشات الطرقات داخل منازلنا صرنا فرجة للعالم ،رحت اشق طريقي معتمدة على حاسة شمي القوية فكان يترائ لي شكل الأرواح وهي تنسل بخفية وبكل تأن وكأنها لا تريد أن تزيد من معضلة أصحابها ،تخرج كالشعرة من العجينة وهي تتجنب النظر إلى بقاياها في الأرض تعلو وتعلو لتلتحق ببارئها تاركة كلها كي يبقى شاهدا على مهزلة أبت أن تنتهي، أمشي وأمشي وتزداد الرائحة قوة فأعرف حينها أني كدت أن أصل إلى والدتي روائح الياسمين والقهوة المغلية على نار هادئة كانت امي تحضرها فيما رحت أنا لأغسل يدي،وياليتني لم افعل، فجأة توقف الزمن عدت خمسة عشرة سنة للوراء شريط حياتي يمر أمامي كالدخيل كدت لا اعرف تفصيلا مضى، بيتنا بحارة الجوري، أصوات الزمن الجميل الصادرة عن الفونوغراف جدي وغليونه الخشبي نظارته السميكة وجريدته الوفية، جدتي ورائحة العنبر وأكواب الشاي المزخرفة أمي بضفيرتها التي تكاد تلمس الأرض لولا خجلها من أن تدنس ببقايا تراب عالقة بالذاكرة،والدي ورائحة الكولونيا التي ترشها له والدتي، شجرة الياسمين وأشجار الزيتون بالمرج ،أصوات الأطفال يلعبون الغميضة وكلهم أمان، بالحي ودكان عمي احمد رائحة الخبز الشهية، وجارتنا شهد التي تفننت عبر كل الأزمان وفي مختلف المناسبات في رسم خانتها وإعادة إحيائها في كل مرة عل وعسى تحظى بإعجاب صاحب البذلة الغربية، كان المنظر مضحكا جدا آنذاك، جلسات الذكر وسيدي ،زادت حدة الطنين وتناهى إلى سمعي أصوات المذاكرين """وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل"""" نزفت ذاكرتي ألما حين عادت للأمر الواقع وصورة براميل الوقود التي ترمى فوق رؤوسنا بشكل دائم وهدير محركات طائرات العدو التي تبث الرعب فينا سكنت ولم تبرح مكانها،وصلت لأمي وروح أمي وحنان أمي وجدت كل شيء حاضرا ولم أجد أمي،كان المنظر مفزعا فانقطعت الصورة ولم اعد أعي شيئا، تذكرت غمرة والدتي وحديثها عن العناق:""العناق بنيتي أمر مقدس ،بلسم شاف لكل الجراح، في حضرة العناق تموت الأبجدية فالأيادي كفيلة بان تعبر عن ما عجزت عنه الشفاه،العناق صوت الشفاه وكلمات القلب إن خانتك التعابير يوما عليك بغمرة وأعدك بأنها ستفي بالغرض "" فكانت صورة والدتي وهي تحتضن أخي الصغير شريف كي تحميه من الحجارة المتساقطة جراء انهيار سقف البيت آخر شيء حفر بمخيلتي كان ذلك عناقها الأخير الذي وفى بغرض دفاعها عن فلذة كبدها حين الضراء وإن كان مميتا .
-
سارةقلب مشع روح شفافة
التعليقات
...من اجمل ما قرات حقا .. في الصميم
حزين لما آلت اليه احوالنا .. ..
كيف كنا و كيف اصبحنا .. نضحك تارة ونبكي اخرى...
املنا في الله كبير ...