صديقة الورود - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

صديقة الورود

  نشر في 06 فبراير 2017 .

ليست كغيرها ممن يعشقن السفر, ولكنها تنقلت من بلد لأخري وعلي مدار سنوات طويلة طلبا للعلم وسعيا للرزق. ولأنها من عشاق الورد, اعتادت في كل سفرة أن تبحث عن البذور النادرة لتزرعها في حديقة منزلها. كانت تعشق الزهور ويميل قلبها دوما لها. كانت تهدي الزهور من باب إدخال السرور. كان قلبها جميل كحديقة منزلها, التي قسمتها إلي أحواض زرع جميلة وبلمسة فنية كانت توزع البذور في كل حوض. ذلك الحوض احتضن زهور نادرة توصلت إليها عن طريق جارة عجوز تعرفت عليها خلال رحلتها إلي اليابان. ورود تخطف الأنظار لما تتمتع به من لمعة اللون البنفسجي الهادئ. كانت العجوز قد أهدتها إياها لتزرعها في بيتها عندما تعود إلي بلاد النيل وتتذكرها دوما بتلك الزهور. وهذا الحوض المستدير ضم باقات من الورود الحمراء التي لطالما بحثت عن بذورها في سويسرا إلي أن وجدتها لدي محل زهور أنيق. اهتمت بشغف أن تتعرف علي آليات الإعتناء بتلك البذور واستفسرت من صاحب المحل شخصيا عن الوقت الأمثل لزراعتها وأصرت أن يبوح لها بالسر الذي يحفظ للوردة الحمراء زهوة لونها ونضارة أوراقها. أجابها الشاب بحرفية بعد أن لمس في شغفها بالزهور قلب أشبه للحدائق منه للبشر, سرد لها الكثير عن تلك البذور والطريقة المثلي لزراعتها وقبل أن تغادر المحل بادر بعد أن لمس في دفء أسئلتها تلك العاطفة التي تربطها بالورود, قائلا لها:״ تلك النبتات الضعيفة هي نبض الطبيعة الصامتة״. واستطرد قائلا:״ إن أريج الزهرة سيلتصق باليد التي زرعتها وسقتها بل أن نبض القلب سيتعلق به, حتي وإن كان ذلك القلب في أسوا حالاته״. خرجت من المحل وفي يدها كيس البذور وفي مخيلتها مكان الحوض الجديد في حديقة المنزل. سافرت إلي أرض الوطن في زيارة سريعة وزرعت البذور, وغادرت أرض الوطن وغابت إلي أن عادت يوما وأحضرت بذور أخري. تلك هي صديقة الورود ومن هنا تبدأ قصتها, تتنقل بين فصولها وفي يدها حقيبة سفر.

رن هاتفها المحمول وارتسمت علي وجهها ابتسامة رقيقة, كانت تعرف من المتصل, وأسرعت بالرد وإلقاء التحية, فردت المتصلة قائلة: حللتوا أهلا ونزلتوا سهلا ! كانت صديقتها هي المتصلة. وكانت تهنئها باعود الأحمد الي أرض الوطن, متسائلة متي وكيف ستلتقي بها وهل ستسافر مرة أخري؟ فردت صديقة الورود قالة: نعم! هو بالفعل كذلك. وتعالت ضحكاتها الجميلة وسردت لها عن الرحلة الأخيرة وأخبرتها أنها تنتظر زيارة وما أعدت من أصناف الطعام اللذيذ. فقد دعت والدتها وأختها وابن أختها الشاب الوسيم دارس الطب ومعشوق خالته لقضاء اليوم معها.

أنهت مكالمتها وأسرعت بإعداد طاولة الطعام واستعدت لاستقبال الأسرة فاليوم مزدحم بالعديد من المهام التي تود أن تقوم بها وهي للتو عائدة من رحلتها الأخيرة. ذهبت إلي حجرتها وفتحت حقيبة السفر التي لاتزل في أحد أركان الغرفة. كانت البذور هي أول ماحرصت علي وضعه في حقيبة السفر وآخر ما أخرجت منها. وصلوا ضيوف صديقة الورود وتناولوا الطعام وسط ذلك الدفء العائلي الذي لطالما افتقدته, قصت عليهم أثناء تناولهم الطعام عن تفاصيل سفرتها الأخيرة لبلاد الإنجليز, حكت الكثير عن طباع سكان البلدة التي كانت تقطن بها وكيف احتضنت في انسجام طوائف وجنسيات مختلفة.

بعد أن انتهت من ترتيب المطبخ, ذهبت برفقة ابنتيها وضيوفها إلي حديقة المنزل لتناول الشاي والكعك اللذيذ. أخبرتهم أنه قد حان الوقت لمساعدتها في نثر البذور التي أحضرتها معها. وروت لهم أنها عشقت تلك الورود التي رأتها في حديقة جيرانها الإنجليز, حتي أن عطرها يسكن مخيلتها إلي اليوم, وأنها اشترت البذور خصيصا لتزرعها في الحوض الجديد الذي أعدته في وسط الحديقة وتطل عليه شرفة المنزل. ارتدت صديقة الورود جوانتي بنفسجي اللون وبدأت كعادتها نشيطة ومرتبة, أحضرت كل الأدوات, تخلصت من أوراق الشجر الجافة, أعدت التربة جيدا وحرصت علي تقليبها عدة مرات بمساعدة الطبيب الوسيم لتهويتها قبل نثر البذور. كانت والدتها تتابع بحماس تفصيل زرع البذور الجديدة, فهي تعلم أن ابنتها تحب كثيرا أن يشاركها من حولها ما تعمل بنشاط وهمة. رددت بحنان علي مسامع صديقة الورود أن ״تلك الورود ستصبح يوما ما ورودا جميلة تسعد بها وبطيب عطرها كل صباح״. فتحت كيس البذور ووضعتها في التربة وهي تتمتم بالبسملة وارتسمت علي شفتيها ابتسامة رقيقة. سألها الشاب الوسيم: ״ما الذي يضحكك؟״ فأجابت: ״وكأني أري ورودي الجميلة وهي لاتزل بين يدي

بذور!״ تلك الابتسامة التي تعتلي وجهها يصاحبها الإحساس نفسه الذي يراودها كل مرة عند زرع حوض جديد, وكأنها تقول لتلك البذور بحب وبتفاؤل: ״سأجعل الحياة جميلة من أجلك״. وكيف لا؟ فصديقة الورود تجيد تلك اللغة التي تداعب قلب الكبير والصغير في أنحاء العالم أجمع: لغة الورود. تقترب منها ابنتها الصغيرة لتهمس في أذنها برفق وتتساءل عن أهمية ذلك الحوض الجديد, فبالحديقة العديد من أحواض الزرع والكثير من الورود إلي جانب عدد لابأس به من أشجار الزينة, فلم التعب إذن؟ خاصة أنه يمكنها أن تشتري ما تشاء من الورود وقتما تشاء ودون أي تعب. تجيب صديقة الورد ابنتها قائلة:״ إن الورد حبيبتي يهذب النفس والروح, فكلما نطرتي إليه تعلمتي درسا جديدا من الطبيعة التي لا تبخل علينا أبدا بحكمتها, فكيف نبخل عليها بالقليل من الوقت والمجهود؟״ استدارت لهم جميعا وقالت أنها يوما ما قرأت حكمة بليغة ظلت حتي يومها هذا عالقة بذهنها, ونصحتهم بأن يتبعوها ويذكروها بها دوما, قالت:״ إذا كان مع أحدكم قرشين فليشتري بأحدهم خبزا وبالاخر وردة, هكذا تغذي روحك تماما مثلما تغذي جسدك״. عاودت عملها في حوض الورد الجديد, أتمت المهمة بمساعدة الطبيب الشاب وابنتيها. غرست البذور بعناية في التربة وألقت عليها الماء. علقت والدتها :״ أحسنتي ابنتي الغالية, ورودك هذه ستصبح أجمل ما رأت عيونك!״وقفت بسرعة لتجمع كل ما تبقي حولها من أدوات, ولترتب الحديقة , تخلصت من أكياس أوراق الشجر الجافة. احتضنت ابنتيها فرحة بانتهاء

المهمة وهمت بالعودة إلي داخل المنزل عبر السلالم الصغيرة المؤدية إلي شرفة غرفة المعيشة بالدور الأرضي.

فجأة ...........

تعثرت قدمها وهي تخطو عبر الباب الزجاجي للشرفة, اصطدمت رأسها بالسور وتعثرت قدمها لترتطم بالسلالم وتسقط عبر الدرج إلي أرض الحديقة. وقعت أمام عيون الجميع , لتهرع الفتيات خلفها مصدومتين من صوت ارتطام رأس والدتهما بقوة في الدرج. تهوي صديقة الورود وسط الزهور وتسقط معها دمعة. سقط معها كل ما كانت تحمله في يديها, خارت قواها وسالت من رأسها الدماء. صرخة الأم لهول ما ألم بابنتها شق قلب الطبيب الشاب الذي هرع نحو خالته لمساعدتها. الإبنة الكبري تدمع بقلبها الذي كاد أن يتوقف عن النبض من هول الصدمة, وفي جزء من الثانية لاحظت أن والدتها كانت تحمل الكثير بل حملت أكثر مما ينبغي حتي أنها لم تنس أن تمسك بيدها ويد أختها. المشهد يزداد قسوة أمام صورة الإبنة الصغري فهي تمسك بيد الأم وتمسح بالأخري عن جبينها الدم , وتدعوها للوقوف باكية إليها:״ انهضي لأنهض معكي״ فالسقوط لايليق بكي أمي!״للمرة الأولي ترقد في حضن حديقتها والزهور حولها في كل مكان ولكن غائبة عن الوعي. سقطت صديقة الورود النشيطة, رقدت صاحبة العزم والهمة حيث لم تقع يوما, نعم خارت قواها وفقدت وعيها وحتي عزيمتها. لدقائق قليلة, هي علي قلب محبيها كانت أطول من السنين, رقدت صديقة الورود في أحضان زهورها الجميلة, صديقتي التي روت زهورها دوما بالماء هي نفسها من سقتها طعم الدماء.

عفوا أيها الورود, فلم يكن بالإمكان أكثر مما كان, بعد ما قدر رب العالمين وشاء,

رقدت رغما عنها, وكبلت الأقدار يديها, فلم تعد تقوي علي حمل الماء,

للأسف أسكت الحادث لسانها, الذي ما كان ينطق إلا بكل جميل, وأعلن الطبيب أنه سيسعي لتضميد الجراح. صديقة الورود ليست فقط جريحة أيها الطبيب, هي أيضا فريسة, فالصدمة جاءت علي مداركها قوية وقد تملكت منها حين استوعبت أنها لا تقوي علي تحريك أناملها, وأن جسدها لا ينصاع لأوامرها. أدركت أنها تعيش رغما عنها واقعا لايليق بها ولا يتماشي مع طبيعة شخصيتها, حزنت! فلم يخطر لها يوما ببال أن تكون صديقة المرض وأن ترافق الراحة أمرا وليس طلبا, فأغمضت عيونها عن العالم أجمع. تناست أو لربما أنساها اليأس أنها لا تزل قوية, بل أقوي من أن يفتك بها أي ألم ويسيطر عليها أي حزن. وحملت إليها الزهور عبر كلماتي ومن بين السطور أخفي دمعاتي لأنقل رسالة مفادها أن من يزرع الورد ماخلت يديه يوما من الأشواك. نمت البذور التي حملتيها في حقيبة سفرك وزرعتيها بيديكي لتصبح نبتات جميلة , ولكن للأسف وحيدة. لا أحد يهتم بها ولا يرويها إلا المطر. لقد اشتاقت ورودك إليكي, كسي الحزن حديقتك, امتلأت أحواض الزرع بأوراق جافة منعت عنه نسمات العبير وحجبت نور الشمس. أذاق غيابك المكان وساكنيه طعم الفراق, ورد الحديقة بهتت ألوانه وذبلت أوراقه, حديقتك الخضراء بلون الجنة غطاها التراب, ووجهك الجميل غطي الحزن ملامحه, فماذا غير الورد سيعيد إليكي الابتسامة؟

صديقة الورود القوية, صاحبة همة عالية, وصلابتها جعلتها تواجه أعباء لا يقوي الكثيرون عليها, لذا لن تسمح للحزن أن يقتل همتها ويسلب صرح لحياة هي قد بنتها. أعلم أنك لن تسمحي بأن تموت زهورك وتذبل ورودك وأنتي تعلمين أن الحياة قد فارقتها يوم فارقتيها مغمضة العينين, أقولها لأخاطب بها قلبك: ״ورودك في حاجة لذلك النور الذي يشع من رحا يديكي ليهديها النجاة ويعيد لها مرة أخري طعم الحياة.״

فمن يهدي الحياة لحياته ألف معني!



  • 1

   نشر في 06 فبراير 2017 .

التعليقات

بسمة منذ 7 سنة
جميلة ... دام قلمك
1
أميرة أحمد
شكرا جزيلا
تحياتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا