أثناء ممارستي لعملي في إحدى المستشفيات التابعة لوزارة الصحة دخلت علينا فتاة صغيرة لم تبلغ من العمر خمس أعوام ،كانت مصابة بكسر تم جبره في الساق وتعاني الآن من التفاف بسيط بالقدم ما يجعلها تسير وقدمها مستديرة للخارج قليلا وبعد الفحص أخبرت والدتها ومن معها بأن الفتاة "كويسة"وأن هذا الإعوجاج سيزول قريبا مع الحركة ومع قلق الام المستمر وخوفها الذي فسرته بأنه بالتأكيد طبيعي فالأم تخشى على اطفالها من أي مكروه وأثناء حديثنا أتبعت الأم تعبيرها عن القلق بقولها "أصلها بنت يا دكتورة " !!
(ردت الكلمة في زوري) كما يقولون فالأم تقلق على الطفلة كونها بنت ولما حاولت أن أتبين منها تفسيرا لهذه الجملة أكملت بأنها بنت والبنت أقل حاجة تعيبها ويمكن متلقيش اللي يجوزها !
ولم تكن هذه الحادثة الاولى من نوعها بل تكرر أمامي أكثر من مرة حديث مشابه لتجد أحد السيدات تقول (وبنت كمان يعني مش هنقول ولد والله احتسنا بيها ولفينا وعملنا كل حاجة بس هنعمل ايه )يعني انتو كنتوا بتلفوا بيها عشان هي بنت خايفين لتبقى معيوبة مش عشان خايفين عليها هي نفسها !!
ما يزيد الامر سوءا والطين بلة أن هذا التفكير ليس في الطبقات البسيطة أو الأوساط ذات التعليم المحدود فقط بل تجده في الطبقات الأرقى والتي تحظى بمستوى تعليمٍ جيد وخبرة واسعة ولكن الثقافة واحدة في كل ثنايا المجتمع !
وليست هذه هي النقطة الوحيدة التي يتوقف عندها المجتمع بالنسبة للمرأة من أولى مراحلها وهي طفلة ثم مراهقة وبعدها شابة وهكذا فهي بمجرد أن تولد يبدأ "النحس" فأمثلة كــ(يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للمات ) وذلك لما يتبع خلفتها من خوف دائم بدءا من تأخرها في الزواج ونظرة المجتمع لذلك مرورا بما قد يتبع ذلك من أنو (يطلع عليها كلام أثناء علاقتها مع زملاء لها في العمل ونظرتهم هم أنفسهم لها )واذا تزوجت فالخوف الدائم من الطلاق لما يتبع ذلك من خوف أن تعود لتعيش بمفردها الأمر الذي يظل غير مقبول من المجتمع مهما بلغ قدر المرأة ومكانتها العلمية والعملية فتعود معيوبة مرة أخرى وهكذا دواليك ..
الحقيقة انني كلما حاولت اقناع ذاتي بأن نظرة المجتمع تغيرت وأننا نشهد تحسنا ملحوظا في اعتلاء المرأة لمناصب مختلفة لم تكن مقبولة في السابق وازدياد حالات الانفصال بين الأزواج إذ لم تعد المرأة تقبل أن تظل في عصمة رجل يتحكم بحياتها ،إلا أن دواخل المجتمع لا تزال على حالها ويظل البشر يتهامسون فيما بينهم عن تلك المرأة وهذه الفتاة وإن أبدَو ظاهريا اعجابهم بها وبقوتها واختلافها ووو
فالبنت هي البنت والمرأة هي المرأة في نظر الجميع بمن فيهم النساء أنفُسهم هدفها الرئيسي هو الزواج والإنجاب فالتي ترفض الإنجاب او تفكر حتى في مجرد تأجيله تصبح ناشزا ناقصة الأنوثة مهما كان وضعها خلافا للرجل طبعا الذي لا يجد أي غضاضة أن يتزوج بامراة اخرى ثانية أو ثالثة أو حتى أولى ويشترط عليها انه لا يريد أولادا وعادي مفيش مشكلة ..
وكما عبرت بثينة العيسى في احدى رواياتها أن المرأة (كائن وظيفي )يأتي لتأدية دور محدود اذا حاد عنه يصير شاذا ناقصا معيوبا ،يُلاحق ذووها الخوف مذ نعومة أظفارها ويدعون بالستر حتى يسلمونها للرجل الذي سيحمل همها ويصبح مسئولا عن صورتها أمام المجتمع ويزيح عن كاهلهم هذا العبأ الثقيل ..
لله دَّر كل النساء اللواتي حاولن التعبير عن أنفسهن بالكتابة أو الغناء أو الرسم وغيره وسعين جاهدين لتغيير هذا التنميط الذي يلاحق المرأة في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة لكن يبدو أنه وكما قال سعد زغلول "مفيش فايدة " .
-
Heba Hamdyالكتابة صرخة ،نطلقها بعد أن تروض الحياة أحبالنا الصوتية على الصراخ المكتوم ...