أليست تموت الأشياء عند أبواب المُستشفيات يا أبي ؟ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أليست تموت الأشياء عند أبواب المُستشفيات يا أبي ؟

إن كانت الزهرة ذبلت هكذا عند نافذة المشفى فكيف لي أن أضمن أنني سأغدو يافعِاً بعد عامٍ قادم في بلد فيه مشفى !

  نشر في 24 يناير 2018 .

لم أدُم طويلاً، جئتُ زائراً لكن الحياة لم ترُق لي شيئاً يا أبي، لم يُعجبني هذا العالم، ولم تُعجبني هذه الوردات التي ذبلت عند نافذة المشفى، أُراهن كثيراً أن لا أحد اهتم بسقيها وريّها عند ظمئها وهي وردة بألوانٍ زاهية كان مِن المُمكن أن تأتي برونق جميل لأجواء كئيبة كهذه الحياة، إن كانت الزهرة ذبلت هكذا عند نافذة المشفى فكيف لي أن أضمن أنني سأغدو يافعِاً بعد عامٍ قادم في بلد فيه مشفى !

أليست تموت الأشياء عند أبواب المُستشفيات ؟


الزهرة ماتت هُناك !

ليس ذنباً أن أموت قبل أن أُولد، وليس حرام عليّ أن أموت، لم أكن يوماً مِن المُخلّدين، ولن أكون منهم إلى حين لا يعلمه سوى الله، كُنت سأرحل يوماً ما سواء رأيتُك بعيني أم تغشاني قبل ذلك الأمر، لم يكن عليّ أن أكون قلقاً حتى ذلك اليوم، أنا الآن أكثر راحة مما كُنت عليه عندما حضرت إلى عالمكم، عالم الأحياء الموتى.

لستُ جسداً هُناك يا أبي، حتى أنني لم اكن يوما جسد قَط.

أنا رُوح تشعر دون أن يشعر بها أي جسد، أنا نبضٌ أعيش على حُب كبير لا ينتهي كحُبك أنت، أنا قلبُ لا يسعني شيء سوى خفقٌ يملأني مِنك شغفاً وإقبالاً على الحياة التي لا أجد فيها الحياة بعيدٌ عنْك، أنا طفلٌ صغير أخاف البُعد ويُرهقني البُكاء، ويملاني الفقد رٌعباً مِن قادم مجهول.


حُلم اللقاء :

عندما زفّت الرياح خبر حُضوري إليك اهتز رُكني الصغير، خشيتُ جِداً كيف سيكون اللقاء بيننا، هل ينتظرني كيس كبير مليء بالألعاب والهدايا والأشياء الجميلة؟، خزانتي .. هل وُضعت في زاوية غُرفةٍ صغيرة تأخذني بين أحضانها مع توأمي الآخرين؟، هل كُتب على جدار البيت تحيةً تُمجّد اليوم الذي حضرتُ بِه إلى هُنا؟

أنت يا أبي .. هل ستتملّكني بيديك اللتين لم تُمسكا قبلي طفل صغير ؟، هل ستمسكني جيّداً وتحتنضنني بين ذراعيك الدافئتين عندما يكون الجو بارداً ؟ هل سيقرصني الليل يا أمي وأنت على قيد الحياة ؟

فكّرت كثيراً في ليلة الحُضور إليك، هل سيغمرني الدفء هُناك ؟، هل سأكون جيداً كِفاية كي تتقبّلني كابن لك ؟، حماسُك لقدومي إليك هل سيدوم بعد أن أكبُر أعوام كثيرة ؟، هل سأكون رجلاً تعتمد عليه في الحياة يا أبي ؟

كيفت ستكون الحياة معك ؟، أنا مُتأكد أنها ستكون غاية في الجمال والفرح ، ألست أبي الذي يُحبني كثيراً والذي سيسهر الكثير مِن الأيام راحةً لي ؟!


ميلادٌ وموت :

تحمستُ أكثر مِن أي شيء كي أكون بينكم، ركلتُ رحم أُمّي، ضربتُ كبدها، أخذت حيزاً لا بأس بِه مِن بطنها، أكلتُ غذائها، وشربتُ مِن ماءها، أسقتني رحيق كُل شيء، وأخذت تُهذي بألمها كُل ليلة بسببي أنا، أردتُ الحُضور.

الأمر لم يكن سهلاً، كان شبيه بالموت إلى درجة كبيرة، حضر الأطباء مِن حول أمي، ذبحوا بطنها، وتجرّأوا مُتقدمين بآلاتهم الحادة نحو رحمها مِن الداخل، حاولتُ أن أكون رجلاً لكنني لم أستطع، شقّت الأجساد الغريبة بطن أُمي وأنا لم أُحرّك ساكناً، أخذوني مِن بيتي الآمن، قطعوا عني سُبل الحياة، لم أعد قادر على التنفس، كانت أمي مصدر أنفاسي، صار يدور كُل شيء مٍن حولي فبكيتُ خوفاً، ناديتُك، لكن الزُجاج كان يمنعك مِن الوصول إليّ يا أبي.

كُنتُ أبكي، أفكّر ببيتي الذي تهدّم، وقلبي الذي بات ينبض خارجاً بعيداً عن قلب أمي، أين مسكني ودلالي ؟، لست أتمكّن من أخذ أنفاسي، ولما دارت الحياة مِن حولي رأيتُ وردة ذابلة عند النافذة، بُسرعة وضعوني تحت الزُجاج الذي يتوسّطه ضوء دائري كبير، كان يبرق الضوء في عيني وأنا الذي لم يرى سوى زهرة ذابلة على نافذة جديدة في المشفى !


درس الحياة :

لم تُعجبني هذه الوردة التي ذبلت عند النافذة، أُراهن كثيراً أن لا أحد اهتم بسقيها وريّها عند ظمئها وهي وردة بألوانٍ زاهية كان مِن المُمكن أن تأتي برونق جميل لأجواء كئيبة كهذه الحياة، إن كانت الزهرة ذبلت هكذا عند نافذة المشفى فكيف لي أن أضمن أنني سأغدو يافعِاً بعد عامٍ قادم في بلد فيه مشفى !

أليست تموت الأشياء عند أبواب المُستشفيات يا أبي ؟

هذا الدرس الأول الذي تعلمته، وهو الدرس الأخير أيضا.


رسالة أخيرة:

جدّي، الرجل الذي لا يكلُّ مُفكّراً بحالي، أنا نبض قلبٍ أنت سيّده، ما ذنبي إن كُنتُ وليدُ مرحلةٍ أسيادُها ضمائرهم ماتت منذ زمن بعيد، أنتً حاكمٌ عادلٌ في فِكرك وحكمتك، شُكراً لَك، شكراً لكل دمعةٍ أفرزتها عيناك دون أن يدري أبي، لكل خفقةٍ ناديتَ بها سؤالاً عن حالي، لكل ساعةٍ أمضيتً بِها ساهراً تسأل الله الرأفة بي وتوأمي الآخرين، شكراً يا جدّي، يا سيد قلبٍ أنا نبضه.

جدّتي، أنا آسف، رحلتُ مُسرعاً دون أن أُهديك قُبلةً تشفي ظمأ الحُب إلينا الذي تبرق بِه عينيك البُنيتين، آسف لك وضعتُك في غُربةٍ وآلمتُ قلبك حين لم أستأذن قُلوبكم قبل الذهاب، لكنني أُحبك جِداً، أُحبّك أكثر مِن أي شيء.



  • 5

   نشر في 24 يناير 2018 .

التعليقات

آيــآ منذ 6 سنة
لا أجد ما أقوله....
و لكن أردت التعليق كاحترام و تقدير لما كتبت..
1
ياسين خضر
هذا شيء يُظهر كَمَّ الجمال الذي يسكُنك آية،
لكِ كُل التوفيق ومدينة كبيرة مِن الجمال :)
Salsabil Djaou منذ 6 سنة
احزنتنا ،مقال تدمع لقراءته العيون ،احساس ينطق،اعاد الله الفرحة الى قلب حزين ومليون باقة ورد الى ابن فلسطين،دمت مبدعا.
2
ياسين خضر
سلسبيل، تذوقُ الجمال عند قراءة الحُزن أمر ليس سهلاً، إنه حكر على الطيّبة قُلوبهم كأنتْ.. شُكراً لطيبة قلبُك، شكراً لك ^_^
يوسف فليفل منذ 6 سنة
لقد تملكنى شعور رائع وأنا أرى تصوير الحياة من زاوية المولود.
2
ياسين خضر
لك ذوقٌ جميل يُوسُف، إنحناءة مُقدَّرة لجمال ذوقك :)

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا