أن تقبع في المنتصفِ بين التعاسةِ والسعادة ، عاجز تماما عن ان تترك هذه أو تدرك تلك ..
"أن تعيشَ تعاستك بكل سعادة " !
هذا هو الحل ؟! أن تقف ما استطعت على تلك الشعرة التي تربط بين السعادة والشقاء ، تلك الشعرة التي تدعى التأقلم ؟!
تدرك تماما أن السعادة بعيدة عنك بعد المشرق والمغرب ليس لسوء ظن بالله ولا ليأس وإنما هي مجرد رؤية منطقية للواقع ، يمكنك أن تشعر بشيء من راحة ، هدوء ، استسلام ، شعورك المرير أن الحياة قد وضعت بصماتها على قلبك بكل سطوة فجعلته لها خادما مستسلما لما تأمر به ..
تجد نفسك تتبع حيوات الآخرين بتساؤل وعدم فهم ! لا تستطيع ألا تتساءل عن إذا ما كانوا سعداء أم لا ، ولكن .. هل من فهم هذه الحياة على حقيقتها يستطيع أن يسعد أو يطمئن ؟!! بل إن هذه الدنيا خادعة إلى أقصى حد ، تجعلنا جميعا ننظر إلى أحلامنا من بعيد كأنها نجوم لامعة وتقربها منا بكل استدراج حتى إذا أصبحت قلوبنا على شفا خطوة من تلك النجوم انكفأت على وجوهها وأدركت أن النجم وإن رأته من بعيد فإنه لن يتزحزح عن مكانه في السماء ..
أنت على الأرض ، مقيد إليها بسلاسل وحبال لا حصر لها ، لن يأخذك القمر إليه لمجرد أنك تحبه ، لن يأتي طائر خرافي من مكان ما لينقذك من هذا العذاب ، لن يحلق طائران سعيدان معا فوق التلال ، لن تتصالح الفراشات مع النيران ، لن ينبت لك جناحان أبدا مهما أردت ذلك ، الطيور كلها معذبة ، تئن بخفوت ، تسمع صوت بعضها البعض في شجن وتتواصل عبر الصمت من بعيد ، وماذا عن الروح ؟! إن الروح هي الوسيلة الوحيدة للتحليق ، للعناق ، للقاء ليس له مكان يمكن أن يشمله لو للحظة واحدة في الواقع ، ولكن هذا لا يمنعك من أن تتساءل ، كيف يمكن للسعادة أن تطل علينا مع كل هذا التخبط ؟! ماذا تفعل بجسد تملكه وروح لا تملكها ؟!كيف فُصلت روحك عن جسدك بتلك الطريقة الغادرة ؟! لا تعرف ، تتقبل هذا ، تتأقلم ، بكل الانكسار الذي يميتك تتأقلم ، في أذني تتردد كلمات محمود درويش وهو يخبرنا أن أكبر تنازل نقدمه في حياتنا هو التأقلم ، لا أستطيع أن أمنع نفسي عن الضحك بسخرية ، أجد من المضحك جدا أن أسمع عملاقا بحجم درويش يقول كلاما كهذا ، وكأننا نملك ترف الاختيار ، طالما أنت تظن أن التأقلم تنازل فأنت لم تأخذ من الحياة صفعاتٍ كفيلة بأن تجعلك تنضج بعد ، أفكر ، ربما كان يقصد أن الحياة برمتها تنازل ، تتنازل حتى الموت ، ربما كان هذا طريق لحياة أخرى قادمة ، أكثر بشاعة أو أقل ، لن يصنع هذا فارقا كبيرا ، في النهاية أنت لا تملك حق الاختيار ، لا تملك حتى حق الموت ، لا تملك حق أن تختار أي ميتة تموت !
يتهمونك بالتخاذل ، بالتخلي ، بالاستسلام ، بل أنتم أموات آخرون ، اختلفت الطرق والموت واحد ، إنما التخلي الحق أن تترك الغالي من أجل الرخيص ، أن تترك الآخرة للدنيا ، أن تترك الروح وتتشبث بالجسد ، أن تترك الحب لأجل من تحب ، وأنت إن تركت من تحب لأجل الحب فقد أنصفته ، وإن تركت الحب من اجل من تحب فأنت لا تحبه ! أن تحب ، معناه أنك ترى الحب متجسدا في شكل إنسان ، ترى فيه الروح شفافة نقية طاهرة ، ترفض أن تتخلى عن طهارتها ولو في سبيل القرب ، ماذا يفيد قرب الأجساد إن أهلكنا الأرواح بدناءة أو خبث ؟!
التأقلم والتنازل ليسا بالمعاني الدنيئة التي يصورها البعض ، بل أنت من تحدد تلك المعاني بنفسك عندما تسأل نفسك سؤالا جوهريا : بماذا تتنازل ؟! لأجل من تتأقلم ؟!
التنازل ليس معنى دنيء إلى هذا الحد بل أقول لكم : لا تتوقفوا أبدا عن التنازل ، تنازلوا عن قرب المحبوب ولا تتنازلوا عن الحب ، تنازلوا عن الجسد ولا تتنازلوا عن الروح ، تنازلوا عن الفناء لأجل الخلود ، وعن قربٍ فانٍ لأجل قرب دائم ، وعن الحيوانية لأجل الإنسانية ، لا تهن من تحب بتمسك دنيء وأكرم من تحب بتضحية رفيعة .
من أحب عرف كيف يضحي وكيف يقترب وكيف يترفع وكيف يعلو وكيف يرقى ..عندما تفلت من يدك كل الخيوط وتجد نفسك مضطرا لأن تتنازل فلا تتنازل عن الحب من اجل أي شيء بل تنازل عن كل شيء.. واحتفظ بالحب .
-
آلاء عبد السلاميا قارئي لا ترج مني الهمس لا ترج الطرب .. هذا عذابي ، ضربة في الرمل طائشة وأخرى في السحب .. (محمود درويش)