ذَهَبَ إلى عمله في ذلك اليوم وهو في قمة النشاط والحماس والسعادة على غير عادته، وانعكس ذلك على سلوكه وحديثه مع زملائه في العمل عندما قابلهم بوجهٍ مبتسمٍ مُلقيًا النكات وناشرًا المرح في حديثه معهم، للدرجة التي جعلتهم يتساءلون عن سر ذلك التغيُّر المفاجئ في سلوك صاحبهم الذي كان عابس الوجه ولا يتكلم مع أحدٍ إلا لضرورةٍ طوال الأيام الماضية، حتى إذا تَحَدَّثَ فإنه يقتضب في ردوده، ويقضي أغلب وقته مُنكَبًّا على عمله في جديةٍ وصمتٍ.
فما الذي حدث لصاحبهم جعله يتحول هكذا بين عشيةٍ وضحاها؟!.. ظل زملاؤه يتهامسون فيما بينهم عن السبب الغامض، لكن كل تفسيراتهم كانت محض تخميناتٍ لا أكثر، ولم يستطع أيٌ منهم التوصل إلى السبب الحقيقي لهذا التغيُّر.
بالنسبة له، لم يشأ أن يُطْلِعَ أحدًا بما سيفعله بعدما ينتهي وقت العمل .. فضَّل أن يظل هذا الأمر سرًّا بينه وبين نفسه .. سِرُّه الخاص الذي لم - ولن - يخبر به حتى أقرب الناس إليه.
كان كلما ضاق صدره بأعباء الحياة وضغوط العمل ومشاكل الأسرة والأولاد التي لا تنتهي، يخرج وحيدًا دون مصاحبة أحدٍ من أصدقائه الذين تعوَّد أن يخرج معهم كثيرًا في أوقاتٍ أخرى .. كان في حاجةٍ – بين الحين والآخر – أن يختلي بنفسه بعيدًا عن كل من يعرفهم .. لا يريد أن يتكلم مع أحدٍ .. يريد أن يقابل "نفْسَه" وفقط .. نقْسُهُ التي لا يوجد أي متسعٍ من الوقت للاختلاء بها .. لذا فقد عَزَمَ النية في ذلك اليوم وهيَّأ "نَفْسَهُ" لمقابلتها بعد انتهاء العمل، فقد مرَّ ما يزيد على الشهرين منذ آخر مرةٍ خرج فيها وحيدًا مع "نَفْسِهِ" .. حرص أثناء تواجده في العمل على شحن هاتفه المحمول، فسوف يحتاج إليه أثناء خروجه اليوم في الاستماع إلى أغانيه المفضلة.
في كل مرةٍ يخرج فيها مع "نَفْسِهِ"، كانت قدماه تقوده – دون قصدٍ أو ترتيبٍ مُسْبقٍ - إلى أحياء المدينة القديمة .. كان عاشقًا لشوارعها التي يرتبط بها ارتباطًا روحيًّا منذ أن كان والده يصطحبه إلى عمله هناك في صغره .. كان يشعر بمتعةٍ وسعادةٍ غامرةٍ عندما ينظر إلى بناياتها التي أوْغَلَتْ في القِدَم .. لا شيء يُسعده قَدْرَ السير في تلك الشوارع والنظر إلى تلك البنايات والاستمتاع برؤية تفاصيلها المعمارية وزخارفها الدقيقة المتقنة التي تفوح منها رائحة الجَمَال وعبق الماضي ودقة الصنعة، في زمنٍ صار يفتقد إلى الجَمَال ويندر فيه أن تجد من يتحرى الدقة والأمانة في عمله، وهو ما جعل من مبانينا وعمارتنا المعاصرة شيئًا مشوَّهًا بشعًا لا يمُتُّ للجَمَال بِصِلَةٍ .. عمارةٌ عشوائيّةٌ لا يحكمها نظامٌ ولا تجمعها هُوِيَّةٌ واضحةٌ، وهو انعكاسٌ طبيعيٌ لطبائع الناس وأخلاقهم التي تدنت في ذلك الزمن الذي نعيش فيه الآن .. لم يكن هروبه إلى شوارع المدينة القديمة – في واقع الأمر – من أجل التمتع بالسير فيها بقدر ما كان هروبًا من الناس ومشاكلهم وصخبهم وشرورهم .. وتدنِّيهم.
ظل يمشي طوال ساعتين لم يتوقف خلالهما إلا ثلاث مراتٍ فقط .. مرةً ليأكل أكلته المفضلة، ومرةً ليشتري (الأيس كريم) الذي يحبه، ومرةً ليبتاع بضعة كتبٍ من دار النشر التي يكتب فيها كُتَّابه الأثيرون .. كان يريد أن يفعل – في جولته هذه – كل الأشياء التي يحبها قدر المستطاع.
توجَّه بعد ذلك إلى أكبر ساحات المدينة القديمة .. جلس على أطراف الحديقة التي تتوسطها لعدة دقائق .. تذكَّرَ عندما كانت هذه الساحة ملأى بالناس وتضج بهتافاتهم التي تطالب بالحرية منذ سنواتٍ قليلةٍ .. تذكَّرَ عندما كانوا مجتمعين ها هنا على كلمةٍ سواءٍ، وبمرور الأيام تشتتوا وتفرَّقوا وذهبت ريحهم .. اليوم ساحة المدينة حزينةٌ تكاد تخلو من حركة المارة إلا من بعض السيارات التي تعبرها مسرعةً وكأنها لا تريد أن تتذكر تلك الأحداث التي كانت هذه الساحة شاهدةً عليها .. تنهَّدَ في مرارةٍ وحزنٍ ثم قرأ الفاتحة على أرواح من ضاعت دماؤهم هباءً على أرض هذه الساحة ودعا لهم ثم أكمل سيره.
قادته قدماه بعد دقائق قليلةٍ إلى شاطئ النهر الكبير الذي يشق المدينة الكبيرة ويَقْسِمُها نصفين منذ فجر التاريخ .. خطا عدة خطواتٍ على الجسر الحديدي العتيق الذي يصل بين شطريها ويربض راسخًا فوق نهرها منذ أعوامٍ كثيرةٍ .. يفِدُ العشاق إلى ذلك الجسر كل يومٍ كي يبثُّوا لبعضهم البعض همسات الشوق وكلمات العشق المعسولة، ويحوم من حولهم بائعو الورد وعقود الفُّلِ يَعْرِضُون عليهم بضاعتهم في إصرارٍ لزجٍ ودعواتٍ بأن يُزوِّجهم الله عما قريبٍ، ولا يتركوهم إلا وقد باعوا لهم وردتين حمراوتين أو عِقْدَين من الفُّلِ الأبيض .. وَرْدٌ مُزيَّفٌ غير حقيقي تمامًا كزَيْفِ كلمات الحُب التي يتبادلها هؤلاء العُشَّاق، وعِقْدُ فُلٍّ تطير رائحته بمجرد عبور أول نسمة هواءٍ على حباته تمامًا كانهيار الحُب مع أول أزمةٍ عابرةٍ تطرق باب هؤلاء المحبين.
أما صاحبنا فقد كان وحيدًا بلا صاحبةٍ تُؤنس وحدته على جسر العشاق، يبدو ككائنٍ فضائيٍ هبط على كوكبٍ من المحبين، لذلك لم يقترب منه بائعو الورد ولم يضايقوه بإلحاحهم المزعج .. ضحك بسخريةٍ في سِرِّهِ وهو ينظر نظرة إشفاقٍ إلى هؤلاء العُشَّاق لأنه يعلم أن مصير جميع قصص الحُب التي دارت وتدور وستدور رحاها فوق هذا الجسر إلى زوالٍ .. استدار ليستند بذراعيه على السور الحديدي للجسر مُولِيًا ظهره لحركة الناس والسيارات ومتوجهًا بنظره وكيانه كله إلى النهر الذي تداعب نسماتُ الصيف المنعِشةِ صفحةَ مياهه الهادئة فتجعلها تهتز في خفةٍ ودلالٍ لتتمايل معها المراكب الشراعية المُزدانة بالأضواء المُتعدّدة الألوان فتُشِعُّ البهجة في نَفْسِهِ التي تتمايل بدورها في نشوةٍ لذيذةٍ مع بهاء المشهد وروعة الصورة.
لم يَعُدْ يهتم لما يجري الآن خلف ظهره .. استنشق الهواء العليل بعمقٍ وملأ به صدره في انتعاشٍ .. ضَبَطَ هاتفه المحمول على وضع الطيران .. لم يكن يريد أن يزعجه أحدٌ في اللحظات القادمة .. وَضَعَ السماعات في أذنيه ثم قام بتشغيل قائمة أغاني كان قد أعدَّها مُسبَقًا خصِّيصًا من أجل هذه اللحظة .. عندما يضع سماعات الهاتف في أذنيه وتنطلق عبرها ألحان أغانيه المفضلة، تختفي أصوات البشر من حوله تدريجيًّا لتمتزج روحه وعقله مع الألحان في مزيجٍ مدهشٍ يجعله منفصلاً كليًّا عن العالم من حوله كأنه يطير فوق جميع البشر، بل وفوق السُّحُبِ نفسها .. كان هذا بالضبط هو ما يريده لنفسه في تلك اللحظات .. أن يصنع حجابًا بينه وبين عالم الواقع الذي يدور في خلفية الأحداث الآن ليصنع عالمه الخاص ويغوص فيه بكل جوارحه.
مع توالي الأغاني وانسياب ألحانها، راحت تتوالى لقطاتٌ من حياته على صفحة المياه، وكأنها قد تحوَّلتْ إلى شاشة عرضٍ عملاقةٍ تتنوع فيها اللقطات وتتباين ما بين أوقاتٍ سعيدةٍ وأخرى حزينةٍ .. ما بين لحظاتِ نجاحٍ وأخرى لفشلٍ .. ما بين ذكرياتٍ جميلةٍ لحبيبٍ وأخرى مريرةٍ لغدره وخيانته .. ما بين لحظاتِ ميلادٍ وأخرى لموتِ الأحِبَّةِ .. ما بين لقطاتٍ لزوجةٍ وأولادٍ يملأون عليه حياته، وأخرى لأوقات فراغٍ قاتلٍ لم تجد من يملأها.
لم يَدْرِ كم مرَّ من وقتٍ حين أفاق فجأةً من سكرته .. نَظَرَ في ساعته ليكتشف أن وقفته هذه قد تجاوزت الساعتين .. نَزَعَ السماعات من أذنيه فهجمت الضوضاء عليهما في إزعاجٍ .. لقد عاد مرةً أخرى إلى عالم الواقع بقسوته ومرارته .. أَخَذَ نَفَسًا عميقًا وعبَّ الهواءَ في صدره عبًّا كأنه آخر شهيقٍ يستقبله .. ألقى إلى النهر والمراكب ونجوم الليل التي بدأت في التلألؤ نظرةً أخيرةً، ثم غادر عائدًا إلى بيته وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة رضا وفي عينيه يلتمع بريقٌ لم يكن موجودًا قبل اليوم.