كانت ولازالت عقيدة (الخلاص) القائمة على فكرة انتظار (المخلص)، واحدة من أقدم العقائد التي تبنتها معظم الأديان والعقائد الشرقية القديمة، بما في ذلك الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية، المسيحية، الإسلام). غالباً ما تكون عقيدة المخلص هذه ملاصقة للتفكير الجمعي، في المجتمعات التي تتبنى رؤى وتصورات ومعتقدات ثيوقراطية في تفسير شؤونها السياسية، ذلك أن فكرة (المخلص/ الخلاص) تتسم بطبيعة مزدوجة (دينية – سياسية) معاً، فالمخلص هو مبعوث العناية الإلهية، ذو القوة الخارقة أو هو نفسه الإله الطيب الرحيم، والذي يأتي على موعد محدد أو غير محدد، فيقضي على الشرور والآلام ويعيد الناس الى الطريق القويم بعدما ابتعدوا عنه وانغمسوا في الملذات والآثام، وهو نفسه قائداً غازياً فاتحاً ومحرراً.
في كل الأحوال، هذه هي الرؤية العقائدية للمخلص تنطوي على أمر واحد مشترك بين جميع الديانات، وهو الاعتقاد بأن الخلاص والانقاذ سيكون في نهاية العالم بوصفه تدخلاً سماوياً أو إلهياً، وأن البشرية ستظل دوماً تحت وصاية السماء وعنايتها، ولكن هذه المرة ليس عن طريق النبوة بشكلها الرسالي، بل بشكلها الخلاصي الذي تكون فيه شخصية المخلص من حيث حقيقة من هو والى أي جهة أو سلالة ينتسب وكذا مسمياته والمهام التي سيقوم بها، هي المحور الرئيسي لكل الاختلافات والتباينات العقائدية، وهذا من جهة.
من جهة أخرى، يقودنا البحث حول فكرة استمرارية خضوع البشرية للوصاية السماوية والتي تقرها ضمناً عقيدة المنقذ المنتظر، الى التساؤل عما يناقض هذه الفكرة، أي عن الفكرة النقيض والضد لفكرة المخلص، وهذا ما وجدناه في فكرة قدمها الإسلام بوضوح فريد، ومع ذلك تم تجاهلها بشكل كبير مقارنة بحجم الاهتمام التي حظت به فكرة المهدي المنتظر، وهي عقيدة (النبوة الخاتمة)، التي تقول بأن عصر النبوات والرسالات السماوية انتهى برسالة الاسلام، وأنه ما من نبي أو مبعوث سماوي سيكون بعد وفاة نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام.
وهنا يتحدد طرحنا الإشكالي، في مدى ما يمكن أن تقودنا إليه مقابلة فكرة المخلص أو (المهدي) مع فكرة (ختم النبوات).
(1)
عقيدة المخلص (المهدوية)
تؤسس هذه عقيدة المخلص أو المنقذ الأخير لمعتقدات أخرى متفرعة عنها باللزوم، فالتاريخ الانساني وفق رؤيتها لا يعدو أكثر من مسار منحرف عن التعاليم الإلهية، تسعى فيه قوى الشر الى إثارة الفوضى والظلم ونشر الشرور والطغيان، فتكون الفئات المؤمنة مستضعفة وعاجزة عن مواجهة قوى الشر، نظراً لكونها أقلية ولشيوع مذاهب الشر وسيادتها على عروش العالم، وبالتالي فإن تجاهل الوصايا الإلهية التي تبدأ من عند الاستجابة لأوامر الله بإقامة دولة تستمد سلطانها وشرعيتها من الله مباشرة على الأرض، بل والعمل ضدها بحيث تقام على الأرض عروش دولة الشيطان، وفي إطار المفهوم العالمي للنهاية التي سوف تشهد التدخل الإلهي، فإن كل هذه الأخطاء والشرور تستدعي أن يأتي المخلص لنصرة المؤمنين الضعفاء، وتدمير عروش الشر والطغيان، وإقامة مملكة الله على الأرض.
وهكذا، فإن عقيدة (المخلص) تظل وليدة لعدة عوامل متداخلة فيما بينها البين من مختلف النواحي الاجتماعية والسياسية والدينية والنفسية، ولكن جذرها الأساسي يظل عقائدياً يطبعه الدين دوماً في تخوم النفس الفردية والمعتقد الجمعي، والدين إذ دعم هذا الشعور النفسي، فإنه يمنحه قيمته الموضوعية من خلال تحويله الى ايمان قطعي، بأن هذا ما سيحدث ويتعين انتظاره ومراقبة أشراطه وأماراته في كل حين، تمهيداً لقدوم المعزي المخلص ليقوم بما مكلف بالقيام به.
يمكن التماس الجذور الأولى للعقيدة الخلاصية في حضارات بلاد الرافدين القديمة (السومرية، الأكادية، الأشورية، والبابلية)، وأيضاً لدى المصريين القدماء، ولكنها تتضح بشكل متكامل وواضح في عقائد وأديان حضارات الشرق الأقصى وبالتحديد فارس والهند لدى كل من الزرادشتية والهندوسية والبوذية؛ إذ تتوافق نظريات المنقذ المنتظر على صفات خاصة ورد ذكرها في هذه الأديان والحضارات، فكهنة مصر القديمة قد لعبوا دور المنقذ الذي يتمثل بفيضان النيل، كما تجلى ذلك مبكرًا عند المصريين الذين اعتبروا الإسكندر الكبير “أمون” محررًا ومخلصًا منقذًا لهم، وفي الديانة الهندوسية تمثل فكرة المخلص أرقى أشكال الإنقاذ في التناسخ بالإله “فشنوا”، وفي الديانة اليهودية برز المنقذ كقوة محاربة لقتل أعداء بني إسرائيل، وعند المسيحيين تتجلى صورة المسيح بصفته المنقذ للبشرية والمخلصة من آثامها وخطاياها المضحي بنفسه لأجلها، وهي الصورة البطولية النبيلة نفسها التي سوف تحظى بها شخصية (المهدي) في كافة المذاهب الإسلامية.
في محاولة لتفسير هذه شيوع هذه النظرية والعقيدة التنبؤية بين الأديان الشرقية، فقد عزاها البعض الى تأثير العقيدة الزرادشتية باعتبارها أولى العقائد التي قدمت هذه النظرية بشكلها المتكامل، في حين عزاها البعض الى الروح الشرقية التي تصبو دائماً إلى ما له علاقة بالتنبؤ، وكشف حجب الغيب وأمور المستقبل، حيث إن عقيدة المخلص المنتظر مناسبة للطبيعة الشرقية، وناجمة عن أنماط الحكم السائدة فيه فيها. كما أن هناك من أعتبرها نموذج لشعور جمعي كامن في التركيبة النفسية التي يطبعها الدين في الفرد، ويلتقي على الإيمان بها معظم أفراد المجتمع تبعاً لذلك، وهو شعور بالإحساس بالظلم والقمع والاضطهاد مع حالة من العجز ونوع من التربص القائم على أمل نابع من الايمان بأن الإله سيرسل من يخلص المضطهدين من شر الطغاة، وهو التفسير الذي يجد له مثالاً في نموذج الشتات اليهودي والمظلومية الشيعية القائمة على مظلومية (آل البيت النبوي)، الذي حتماً سيكون المهدي من سلالتها.
وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر في تفسير منشأ العقيدة الخلاصية، إلا أن هناك اتفاق نسبي على أنها غالباً ما توظف في السياقات الصراعية بين طرفي (الدين- الدولة)، بحيث تتخذ لها أبعاداً اجتماعية وسياسية وعقائدية، تقوم على مرتكز واحد هو سنة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، حيث يجري ترسيم معالم الحق والباطل والخير والشر من قبل كل فئة حسب اعتقادها بنفسها وبالقطب الآخر التي تكون في صراع معه.
يتفق ما تقدم مع ما ترصده الحقائق التاريخية والواقعية، والتي تشير الى أن هذه العقيدة تبرز بشدة في الظروف التي تشهد صراعاً فعلياً عنيفاً بين الأقطاب المختلفة، وفي المراحل التي تشهد تحولات تاريخية ذات طابع عالمي أو كوني، وذلك على غرار ما هو حاصل اليوم في عصرنا الراهن.
(2)
عقيدة النبوة الخاتمة
واحدة من أهم الأسس العقدية التي أكد عليها الإسلام، هي فكرة (ختم النبوة)، ومفاد هذه الفكرة أن عصر الرسالات السماوية انتهى برسالة القرآن الكريم، وعلى الرغم من احاطة هذه المسألة باهتمام رجال الدين من الناحية العقدية، إلا أنهم تجاهلوا دلالتها الفكرية والتاريخية، حتى جاء من يخرج عن هذا النطاق، ويعطي المسألة أهميتها.
يعتبر الفيلسوف الهندي المعاصر محمد إقبال (1873-1983)، أول شخص بحث مسألة ختم النبوة على المستوى الفلسفي والتاريخي، وبالتالي فهو صاحب الريادة الأولى من حيث عنى بالطبيعة العقلانية التي تنطوي عليها إقرار الرسالة الإسلامية بانتهاء عصر النبوات من حيث أنها هي نفسها خاتمة النبوات والرسالات السماوية، واصفاً ذلك بأنه جاء منسجماً مع مسيرة تطور العقل الانساني، ومجي الإسلام في توقيت انتقالي، يفترض من خلال الاسلام نفسه أن تنتقل البشرية من أطوارها الفكرية التي كانت عليها فيما قبل، الى مرحلة جديدة يؤسس لها الإسلام بإقرار أنه لن يكون هناك أنبياء أو رسالات سماوية بعد الرسالة الاسلامية، وأن على البشرية أن تعتمد على نفسها بدءً من وقت اكتمال الرسالة الاسلامية والى الأبد.
على هذا النحو قدم إقبال طرحه حول مسألة "ختم النبوة" في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام"- في النسق الذي تعمد فيه الكشف عن القيمة الثقافية لهذه المسألة، وصفها واحدة من أهم الأفكار العظيمة التي قدمها الإسلام.
ومن خلال بناء تعريف للنبوة، أشار إقبال الى أن فكرة "ختم النبوة" تعبر عن بلوغ الإنسانية المستوى الكافي من النضج الذي يؤهلها الى أن تعتمد على نفسها في بلوغ الحقائق الروحانية والغايات الوجودية، وأن الرسالات السماوية التي انتهت بالإسلام، تعتبر كافية لأن تستلهم البشرية منها محددات مسيرتها الحضارية. ففي طفولة البشرية كانت تتطور القوة الروحانية إلى ما أسماه إقبال بــ "الوعي النبوي"- وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي، والاختيار الشخصي، وذلك بتزويد الناس بأحكام واختيارات وأساليب للعمل أُعدت من قبل، ومع الإسلام بلغت النبوة كمالها الأخير، والذي نتج عنه ذلك الوعي والإدراك في الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، الأمر نفسه الذي ينطوي على إدراكها العميق استحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان، لكي يحصّل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو".
وبخصوص الوسائل، فقد حدد إقبال ثلاثة مصادر نوّه بها القرآن الكريم، يعتمد عليها الإنسان في مرحلة العقل الاستدلالي بعد ختم النبوة، وهي الرياضة الروحية والتي تعني مجاهدة النفس بتقوى الله، ثم استقراء القوانين الطبيعية من خلال آيات اللّه عز وجل المنظورة والمسطورة، وأخيرا استقراء القوانين التاريخية التي ذكر القرآن الكريم منها أخبار الأمم السابقة، من خلال الملاحظات المنهجية.
وهكذا، فإن ختم النبوة" ليس مجرد إشارة إلى ذلك الحدث التاريخي المتمثل في توقف نزول الوحي من الله إلى البشر إنه يعبر عن معنى عظيم أو أعمق من ذلك بكثير. إنه حدث معرفي يمثل خطاّ حاسما فاصلا بين الحقبتين الأكبر في تاريخ العقل البشري، الحقبة التي كان فيها الإنسان واقعا تحت الوصاية المطلقة للمتعالي وللمعرفة النازلة إلى عقله من الخارج، والحقبة التي ارتفعت فيها مثل هذه الوصاية وأصبح بإمكان الإنسان فيها أن يعتمد على مصادره الخاصة به في معرفة الوجود (عقله والطبيعة التي يتفاعل معها بكيانه المادّي والروحي إلى جانب خبراته وتجاربه التاريخية المعقلنة مابعديا). وذلك كله على أساس أن الغاية القصوى للإسلام لا تقع قطعا في دائرة النبوة وإنما في دائرة "ختم النبوة".
ومن ثم فإن إبطال الإسلام للكهنوت والرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للإنسان بإعمال العقل والتجربة على الدوام، والنظر في الكون والوقوف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية؛ كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة؛ ذلك أن حدث الإسلام القائم على فكرة الرسالة الخاتمة والعالمية والشاملة، هو حدث انتقال البشرية الى مرحلة جديدة من التفكير العقلي، وهي مرحلة العقلانية الاستدلالية، التي تفترض أساساً أن تبدأ في اللحظة التي تنقطع فيها النبوات بشكل نهائي.
بيد أنه لا ينبغي أن يفهم من فكرة انتهاء النبوة، أنها تفرض أن مصير الحياة في النهاية، هو إحلال العقل محل الشعور إحلالاً كاملاً. فمثل هذا ليس ممكناً ولا مرغوباً فيه، إنما قيمة هذه الفكرة من الناحية العقلية هي في اتجاهها إلى خلق نزعة حرة في تمحيص الرياضة الروحية، إذ تجعل الإنسان يعتقد أن كل سلطان شخصي يزعم أن له أصلاً خارقاً للطبيعة قد فات أوانه في تاريخ البشر؛ ومثل هذا الاعتقاد قوة سيكولوجية تحول دون نمو مثل هذا السلطان، وعمل هذه الفكرة هو أنها تفتح سبيلاً جديداً للمعرفة في ميدان الرياضة الروحية عند الإنسان.
ومفاد ما يراه إقبال حتى هذه النقطة، هو أن كل المقولات التي تزعم بوجود ذلك النموذج الشخصي الخارق للطبيعة، قد انتهى عصرها ولم يعد لها مكان في العصر العقلاني الذي أرخ له حدث الرسالة الإسلامية الخاتمة.
لاقى طرح إقبال رفضاً شديداً من قبل الفكر الديني التقليدي، فقد تبنت الطائفة السنية موقفاً رافضاً للفكرة، وسعت الى تفنيدها ومنع القول بها. في حين كانت الردود القاسية على طرح إقبال قادمة من علماء ورموز الطائفة الشيعية أكثر، لأن هذه النظرية تنسف تماماً عقيدة المهدي المنتظر، التي اعتبرها إقبال وبكل صراحة بأنها ليست من الإسلام، بقدر ما هي امتداداً للنزعة المجوسية الزرادشتية، التي ورثتها الثقافة الفارسية، وأدخلها الفرس الى الإسلام عن طريق المرويات والأحاديث، بينما الفكرة نفسها لا أصل لها في القرآن لا من بعيد ولا من قريب، وهذا القول يعني أن كل ما قامت عليه العقيدة الإمامية (الشيعية) لا أساس له، وأن ما تعد به من ظهور المهدي المنتظر، يتقاطع جملة وتفصيلاً مع ما هو منصوص عليه بصراحة كاملة في القرآن الكريم عن ختم النبوات، الأمر نفسه ينسحب على الطوائف القاديانية والأحمدية والبهائية، التي بدا واضحاً أن طرح إقبال عن الخاتمية يهدم أساساتها تماماً.
وفي هذا الشأن يقول إقبال: "نحن المسلمون ينبغي أن نكون أكثر الناس في العالم حرية على مستوى الدين؛ لأننا نعتقد بختم النبوة، ولا نجلس بانتظار المصلح السماوي ليعود إلينا مرة أخرى، ويصحح أخطاءنا ومسيرتنا، ويأخذ بأيدينا كالأطفال في خط الصلاح والمسؤولية، ومن هنا نجد باب النقد مفتوحاً أمامنا، وعين عقلانيتنا بصيرة فلا يوجد أي رأي أو فتوى أعلى وأقوى حجية من فتوى العقل. إن إلغاء الكهنوت وسلطنة المؤسسة الدينية شاهدة على هذا المعنى وملازم للقول بختم النبوة، لأن مرحلة الهداية المباشرة قد انتهت، والإنسان المعاصر يستطيع من خلال الاستفادة من التراث البشري أن يقود سفينته رغم تحديات الظروف الصعبة، ويوصلها إلى ساحل الأمان في حركة الواقع".
ختاماً، يمكن القول بأن نماذج السلطة الكهنوتية لازالت تمثل عائقاً صعباً، يحول دون مرور خطاب العقل والعقلانية الى المستقبل الذي تطمح إليه الشعوب الواقعة تحت ربقة أسر هذه السلطة وخطاباتها السقيمة، ولعل تصاعد موجة التطرف وممارسات العنف والإرهاب والتحول الى الصراعات الطائفية والمذهبية في المرحلة الراهنة، يكفي كدليل على مدى انحراف قوى الكهنوت عن جادة الحق والصواب، وأن لا مخرج للشعوب المقموعة إلا أن تثور ضد الكهنوت الديني والاستبداد السياسي في آن معاً، فكلاهما يمثلان وجهان لحقيقة واحدة هي التخلف واللاحراك المعرفي والحضاري.
-
فكري آل هيرمواطن لا أكثر ..